ربط ثقافة شركتك بعلامة تجارية
لا تختلف استراتيجيات بناء العلامة التجارية سواء على الأرض أو على الويب للشركة إلا في بعض الفروق التي لا تظهر إلا أثناء العمل عن بعد، مثل التركيز على المزايا التي تقدمها الشركة للموظفين فيها من دعم إضافي لهم أثناء العمل عن بعد، والمنافع التي يحصلون عليها في عملهم من منازلهم، والتسهيلات التي يحصلون عليها كذلك أثناء التوقيع على العقد مع الشركة، مثل توصيل العقد ومعدات العمل إلى منازلهم إن كانت الشركة هي التي توفر ذلك، وكل ذلك يصب في ولاء العاملين للشركة ابتداءً، ثم سمعة الشركة بطريقة غير مباشرة، كما سيلي بيانه في هذا المقال.
وقد يرى المدير أن سمعة الشركة -خاصة في شأن تعاملها مع الموظفين- ليست مهمة بما أنها ليس لها مقر على الأرض، فما لا يُرى لا يمكن قياسه، أليس كذلك؟ كلا على الحقيقة، فالقوى العاملة الشابة حاليًا ممن وُلد في رحم الإنترنت، ولا يتأثر بهذه النظرة الانتقالية التي لدى الجيل الأكبر منه والذي قد لا يزال غير مقتنع بمكافئة العالم الافتراضي للعالم الحقيقي في كيانات الشركات والمؤسسات وصناعة القرار مثلًا.
وعلى ذلك كنت أرى ما يشبه حملات الاستقالة الجماعية من بعض الشركات العاملة عن بعد بسبب زيادة ضغط العمل فيها وعدم وجود فرص للترقية، وكلما طلب أحد المدراء تثبيته في منصبه أو ترقيته تعللت الشركة بأنه تجاوزت ميزانيتها بالفعل بكذا وكذا مدير، فكأن الشركة تشبعت بالكفاءات من سمعة سابقة لها أو من ظرف سابق للسوق، لكن هذا لم يعد صالحًا فترك الموظفون الشركة إلى غيرها، فاضطرت إلى رفع رواتبها ونشر حملات توظيف جديدة، مما يكلفها تدريب عمالة جديدة بعد خسارة الكفاءات التي قضت أربعة إلى ستة أعوام في المتوسط في الشركة، فأي توفير كان هذا؟!
فتلك أول فوائد السمعة الجيدة للشركة المبنية على سلوكيات صحيحة للعمل فيها، وهي تقليل التكاليف الناتجة في عمليات التوظيف والتدريب، بل ربما تكوين فريق من السفراء للشركة بما أن الموظفين لديهم حماس للعمل معك والتسويق للشركة.
أما الفائدة الثانية فهي جذب أفضل الكفاءات المتاحة في السوق، فأولئك يبحثون عمن يقدِّر مهاراتهم، وإذا أحسوا أن شركتك لن تعطيهم ذلك لسبب أو لآخر فلن يخاطروا بتوقيع عقد ملزم معك أو حتى بتخصيص وقت من مسيرتهم المهنية في شركتك، لأن ذلك قد ينعكس سلبًا على معرض أعمالهم أو سيرهم الذاتية، وقس على ذلك إن كانت شركتك على النقيض لها سمعة جيدة، حيث ستتسابق الكوادر المميزة للعمل معك.
رغم أن العلامة التجارية وثقافة الشركة متداخلان بحيث لا يكاد يُعرف من منهما جزء من الآخر، إلا أن إطلاع العاملين معك عليهما يضمن ولاءهم للشركة وإيمانهم بأهدافها، كما تفعل شركة حسوب بتوضيح أنها في مهمة لتطوير العالم العربي منذ بدايتها، وفي كل مناسبة تقريبًا وكل كتاب أو دورة أو مقالة تُنشر على منصاتها، بل وفي قراراتها التي تشتري فيها منتجات أو تطور أخرى، وكل ذلك لا يخفى على الكوادر الموجودة في السوق والتي تبحث عن كيان تعمل فيه.
جاذبية الشركات البعيدة
لكي تصير الشركة البعيدة جذابة للعمل فيها فيجب توافر عدة عوامل في إدارتها وأسلوب عملها، والمزايا التي توفرها للعاملين فيها.
تفهم مشاكل العاملين عن بعد
ينبغي أن تدرك الشركة البعيدة مشاكل العمل عن بعد من عزلة وقلة حركة وخلط بين العمل والحياة العائلية وغيرها، ومن ثم تضع السياسات والإرشادات التي تعالج هذه المشاكل، وسنأخذ حسوب مثلًا هنا بما أنها شركة عربية تعمل عن بعد منذ بداياتها تقريبًا، وعبر عدة دول أيضًا.
فتضع حسوب في دليلها الإرشادات الخاصة بالعمل عن بعد للعاملين فيها، وسلبيات هذا النمط وكيفية التغلب عليه، من ذكر للأساليب الصحيحة للجلوس على مكتب العمل إلى الدعوات التي ذكرناها من قبل للعاملين فيها من مواطني نفس الدولة لقضاء أوقات غير رسمية، وغيرها من توضيح لأدوات وبرامج العمل والأغراض التي تستخدم فيها.
بناء الثقافات العابرة للحدود
من عاصر فترة الثمانينيات وما حولها (أواخر السبعينيات وأوائل التسعينيات) في الوطن العربي يعلم حركة النهضة التي ازدهرت في تلك الدول، واحتياجها إلى أيدي عاملة من جيرانها، والخبرة التي اكتسبها من سافر للعمل في تلك الدول ثم عاد بها إلى بلده، لصعوبة التحصل على هذا الكم من الخبرات والتعامل مع الثقافات المختلفة في سياق العمل وجهًا لوجه لفترات زمنية طويلة.
وقد سنحت فرصة أخرى لاكتساب نفس الخبرات وأكثر منها أحيانًا في مثل هذه الشركات البعيدة، فهي لا تجمع العناصر المختلفة فقط في الجنسيات، بل والدول التي يعملون فيها أيضًا بما يتبع ذلك من تفاصيل قانونية أو سياسية أو اقتصادية، ذلك أن كل موظف يعمل من دولة مختلفة، على خلاف المثال اﻷول الذي اجتمعوا فيه في ظل دولة واحدة.
فحالة الشركات البعيدة حالة فريدة من نوعها، فهي ليست كالشبكات الاجتماعية وما اعتاده الناس في الإنترنت من التواصل اللحظي قصير المدى، بل هي علاقة طويلة الأمد لشخص يعمل بين ظهراني أهله في الغالب، مع مجموعة متنوعة من الثقافات المختلفة والعادات والتقاليد وساعات العمل والمناطق الزمنية المتعددة، فيخرج منها بتجربة لا تكاد تضاهيها تجارب العمل في الشركات التقليدية أبدًا، ولو كانت شركة متعددة الجنسيات لكنها تعمل من مكتب واحد.
وصحيح أن الشركات التقليدية أو متعددة الجنسيات لها مزاياها التي قد لا تكون موجودة في الشركات البعيدة، لكن هذا لا ينفي مزيج الثقافة الجديد الذي يتحصل عليه من يعمل في الشركات البعيدة.
تطوير الفرق العاملة عن بعد
يمثل تطوير فريق العمل طريقة ناجحة في جذب أفضل المواهب والاحتفاظ بها ، وبناء نموذج عمل عن بُعد ناجح. ومن أهم الركائز التي تساعدك كصاحب عمل على تطوير فريق يعمل عن بُعد هي تدريب العاملين وترقيتهم.
تدريب العاملين عن بعد
يوفر التدريب في مكان العمل للموظفين مزايا مثل زيادة الرضا الوظيفي والروح المعنوية، وتحسين المهارات وكفاءة الأداء، وزيادة احتمال الترقيات الرأسية، ولكن رغم أن أرباب العمل مسؤولون عن تسهيل فرص التدريب الوظيفي، إلا أن تنفيذها في بيئة العمل البعيدة قد يشكل تحديًا لهم.
فتنظر الشركة في أسلوب التدريب المناسب لها، والذي يختلف بين التدريب المرئي أو عبر الاجتماعات أو الدورات أو الشراكة الوظيفية أو غيرها، فالمهم هو توفير التدريب المناسب والدوري الذي يسمح للموظفين بالتطور داخل الشركة.
فمثلًا توفر بعض الشركات اشتراكًا في مواقع الدورات التدريبية، فيتعلم الموظف منها ما شاء من التعامل مع برامج المكتب إلى إدارة المشاريع إلى التعامل مع زملائه والعملاء، بل إن شاء أن يغير مجاله بالكلية لوظيفة يريدها داخل الشركة درس المقررات المطلوبة لها! وهو ما تفعله شركة حسوب أيضًا إذ تتيح الدورات والمواد العلمية داخل الشركة للموظفين مجانًا.
الترقيات
لا يحب الموظف أن يتدخل المدير في عمله أو يراسله كل يوم أو كل بضع ساعات ليسأله عن أدائه، ولكنه في نفس الوقت يريد أن يري الإدارة جودة عمله وأنه يستحق الإجازة أو الترقية أو زيادة الراتب التي سيطلبها حين تسنح وظيفة أفضل أو فرصة لزيادة الراتب، فكيف نوفق بين الجانبين؟
سيكون هذا الأمر مجهدًا إذا حاولنا إقناع جميع العاملين عن بعد في مؤسسة ما أن تنفذ النقاط التي سنذكرها أدناه، ولا نستطيع ضمان تنفيذها منهم بالشكل الذي يضمن العدل في المكافآت والوظائف وغيرها، لهذا فإن الأيسر أن يتعلمها المدير نفسه ثم يطبقها مع الموظفين، وستكون في صورة نصائح يخبر بها الموظف مباشرة أو إرشادات يخبره بها في الوقت المناسب إما على انفراد أو له ولزملائه أثناء اجتماع مثلًا.
وقد أظهرت دراسة أجريت في المملكة المتحدة أن عدد من حصلوا على ترقيات منذ جائحة كورونا حتى عام 2021 قد انخفض إلى النصف، ولعل هذا كان بسبب إيقاف الشركات للترقيات بسبب تأثرها بالجائحة من باب تقليل النفقات، لكن بالنسبة للشركات التي رقّت موظفين لديها، فقد تعددت أسباب قلة الترقيات بين ضعف التواصل مع العاملين عن بعد بما أن أساليب التواصل القديمة هي التي كانت سائدة ولم يتسن للشركات أن تنتقل نفسيًا إلى فهم أساليب التواصل البعيدة أو تدرب العاملين عليها.
ومن ناحية أخرى، فقد صعُب على المدراء تحديد الإنجازات الفردية لكل موظف بسبب برامج العمل المشترك التي تظهر تمام المشروع ككل، فيطلع المدير على نسخة الملف النهائية أو ينظر إلى مشاركات العاملين في الوقت الحقيقي دون أن يكون ذلك في صورة مرئية يستخرج منها إنجاز كل فرد على حدة، وهو ما كان يحدث بدهيًا في العمل من مقر الشركة.
وقد يقفز هنا خاطر إلى القارئ بما أننا ذكرنا أن التقييم البعيد له أدواته التي تجمع أداء العاملين وتخرجه إلى المدير في هيئة يستطيع تقييم أدائهم منها، غير أننا نذكر ما حدث في تلك الدراسة بعد الجائحة مباشرة، ولم تكن أغلب الشركات قد اعتادت تلك الأساليب بعد.
أهمية الترقيات في استقرار الشركة
وإذا أردنا أن ندرك الدور الذي تلعبه الترقيات في استقرار الشركة ونموها، فإن المحرك الرئيسي الذي يدفع العاملين -خاصة المميزين منهم- إلى البقاء في الشركة هو فرصة الترقي الوظيفي فيها، إما بزيادة الراتب أو الانتقال إلى دور وظيفي أفضل مع زيادة الراتب أيضًا، وقد رأيت من يظل يعمل أربع سنوات أو أكثر مع وعود وهمية بالترقية وترقيات أفقية -زيادة مسؤوليات دون زيادة الراتب-، ثم يضجر بحاله هذه وينتقل بخبرته إلى شركة أخرى.
وهذه خسارة للشركة الأولى التي استثمرت في الموظف كل هذه السنوات، ولعلها وفرت له دورات وتدريبات وغيرها، وستكون تكلفة استبدال موظف جديد به أعلى من ترقيته لو كان بقي في الشركة، وإن قال المدير نرقي أحد العاملين القدامى مكانه لتوفير تكلفة الموظف الجديد، فلماذا تركنا الموظف يرحل من الشركة من الأساس؟!
التواصل وإظهار العمل الفردي
اقترح على الموظفين أن يرسلوا إليك تقارير دورية بالمهام والمشاريع التي يعملون عليها إن لم يكن مجال الشركة يعتمد أحد أنظمة إدارة المشاريع مثل سكرم Scrum مثلًا التي يكون فيها اجتماع قصير كل يوم يتعرف فيه المدير وأعضاء الفريق على ما تم عمله وما يلي من المهام التي لم تُنجز بعد.
كذلك، شجعهم على الاطلاع على خطط الشركة في المستقبل القريب، ومراسلتك بالخطط التي لديهم أفكار حول تطويرها أو تنفيذها، وتقديم المساعدة لزملائهم ولمدرائهم في المهام التي يعملون عليها.
التشجيع على المساهمة
لا شك أنك كمدير لا تراقب كل موظف لديك كما يراقبك الموظفون، فأنت واحد وهم كثير، لكنك تريد ملاحظة سلوكهم وأدائهم لتبني قاعدة معرفية حول كل موظف لديك، حتى إذا احتجت إلى ملء شاغر وظيفي عرفت من يصلح له.
وهذا يكون من الموظفين بمساهماتهم أثناء العمل والاجتماعات باقتراحاتهم أو آرائهم، فقد يكون هذا عفويًا أثناء الاجتماعات الحقيقية أو المحادثات العابرة في المكتب، لكن يقل كثيرًا في الاجتماعات الافتراضية التي يُتاح الحديث فيها لشخص واحد في كل مرة لتلافي التشويش على المتحدث.
ولو انتبهت إلى فحوى النقاط أعلاه ستجد أنها تدور حول محاكاة التواصل الذي كان يتم في مقر الشركة عفويًا أو دوريًا أثناء الغداء مثلًا أو الخروج من العمل أو في اللقاءات الرسمية أو غيرها من المواقف التي يتلاقى فيها الموظفون مع بعضهم أو مع المدراء، وهي المواقف التي تقوي العلاقات بين العاملين والمدراء وتعرّف المدراء على ذوي الأداء الضعيف والمتميز، فلدى المدير خبرة في الغالب في تحديد مستوى كفاءة الموظف من خلال أسلوب حديثه أحيانًا، لكن هذا يختفي أثناء التواصل البعيد، ويزيد الأمر أن المدير قد لا يرى من الموظف إلا أرقامه فقط.
إجراءات عملية الترقية
فإذا وصلت إلى النقطة التي ترقي فيها الموظف، فاحرص على نشر معايير الاختيار بوضوح قبل موعد الترقية بفترة كافية، وتمسك بها أثناء الترقية، بأن تصب الجزء الأكبر من وقت المقابلة على أوجه مطابقة المرشح لتلك المعايير، فتتحدث معه عن دوره في مساعدة زملائه وتطوير أدائهم وفهمه لكيفية إدارة المشروع إذا كانت الوظيفة إدارية، وعن البرامج التي صحح زلات برمجية bugs فيها وفهمه للأبعاد التقنية للوظيفة الجديدة إذا كانت برمجية.
ثم بعد ذلك لا تهمل جانب الملاحظات التي تجمعها من الموظف أثناء حديثك معه، فهذا يفيد الشركة والإدارة قبل أن يفيد المتقدم للترقية، فالمتقدم لها يعمل بالفعل في الشركة، وهذا يعني أن مجرد وجوده مكلف للشركة إن لم يكن أداؤه يغطي تلك التكلفة، فمن مصلحة الشركة والموظف على حد سواء أن يكون الموظف على علم بأوجه القصور التي لديه كي يتجنبها في المرات التالية.
وهذا يعني من ناحية أخرى استمرار تقديم الدعم له حتى بعد حصوله على الوظيفة، في صورة ملاحظات أو اجتماعات ثنائية دورية بعد توليه الوظيفة الجديدة أو دورات تدريبية، خاصة إذا كانت الوظيفة إدارية، ذلك أن الانتقال من وظيفة إلى أخرى يبدو للموظف كأنه عمل جديد في الغالب.
وتبرز أهمية الدعم بعد الترقية إن كانت الوظيفة إدارية، لما تسببه من حساسية بينه وبين بقية العاملين، فقد كانوا زملاء بنفس الدرجة حتى هذا الصباح، فما لبثوا أن صار أحدهم بين عشية وضحاها مديرًا عليهم أو في قسم زميل لهم، فسيكون من غير المقبول أن يمازحهم بنفس القدر الذي كان عليه معهم قبل الترقية.
ولاء الموظفين عن بعد
يعلم أصحاب الشركات الذين يديرون بأنفسهم فرق الموظفين مدى صعوبة استبدال الموظفين وارتفاع تكلفة هذه العملية، من توظيف وتدريب وتأهيل وغيرها، لهذا يفضلون تقديم مزايا إضافية عند إحساسهم ببوادر استقالة أحد الموظفين الذين يصعب استبدالهم، والواقع أن العامل سواء كان عن بعد أو من المكتب لا يريد أكثر من حياة مهنية مجزية من حيث العائد المادي المباشر في صورة الرواتب أو الحوافز أو غير المباشر في صورة التأمينات الطبية والاجتماعية، ومتوازنة في مقدار العمل المطلوب مقابل أوقات الراحة المقدمة من الشركة.
دوافع ولاء الموظفين
لم أر سببًا يجعل الموظف يعمل بحب في شركته أكثر من الغاية التي تكون للشركة -إن كانت لها- والهدف الذي تريد تحقيقه، ويُتأكد من هذا بالنظر إلى الشركات التي تقوم حول هدف غير المال، مثل شركة تسلا TESLA أو شركة أبل أو غيرها من الشركات التي نشأت حول هدف أو منتج تريد نشره وإن كان معاكسًا للتيار السائد في السوق.
ومن رأى الفريق العامل على حاسوب ماكنتوش الأول في الثمانينيات من القرن الماضي يرى الحماس في أعين أولئك الشباب عند حديثهم عن هذا الحاسوب الجديد، وعن مقابلات التوظيف المرهقة التي يجرونها من أجل توظيف فرد جديد، وهي شركة كانت تعاني عدة مشاكل في الإنتاج وقتها بسبب حاسوب Apple III وحاسوب Lisa، وكان البعض يتهم ستيف جوبز في تلك المشاكل بسبب قراراته في تصميم تلك الحواسيب أو بيعها، ولم يمنع هذا أن يحب فريق العمل الجديد حاسوب ماكنتوش كأنه مولود طال انتظاره.
فنستنتج من مثل هذا أن الموظف سيشعر بالفخر أنه عمل على المنتج الفلاني، أو في الشركة التي تعمل لهدف كذا وكذا، وقد كانت شركة حسوب تنال لنفسها نصيبًا من هذا في الهدف الذي تدور حوله منذ بدايتها، وهو تطوير العالم العربي، وترى ذلك يظهر في أغلب قرارات الشركة وإن لم يكن القارئ مطلعًا على مجريات ما يحدث وراء الكواليس، فإذا كنت ترى أمهات الكتب البرمجية والشروحات ومقالات أبرز العاملين في المجال التقني تُترجم ترجمة عالية الجودة إلى العربية ثم تُنشر للقراء العرب، وتُسجل دورات برمجية باللغة العربية الفصحى، وتُنشأ منصات للعمل الحر والعمل البعيد ونشر الصور والتصاميم والقوالب وغيرها تكون بديلة لمثيلاتها الأجنبية، ومصممة من البداية للعرب، مع قلة من يسير في هذه الطريق من الشركات التي تفضل تكرار منتجات السوق العربية أو استهداف الأسواق الأجنبية.
إذا كان الموظف يرى هذا التوجه رأي عين على مدار سنوات وسنوات من العمل والإخفاق والنجاح، أفلا يشعر بالانتماء إلى كيان يحبه ويحب العمل فيه، بل والعمل على تطويره أيضًا؟
هذا ونحن لم نتحدث بعد عن كيفية معاملة الشركة للموظفين فيها، وهو ما ذكرناه من قبل في هذه السلسلة من المتابعة الشخصية والاهتمام وتوفير فرص التطور الشخصي والوظيفي، والاحتفاء بالإنجازات، والمعالجة العقلانية المنهجية للأخطاء، فقد عملت في شركات من قبل توفر مكاتب فارهة للعاملين فيها، وخدمات ترفيهية، واشتراكات مجانية في مواقع دورات تدريبية، وبطاقات شراء مخفضة، وحوافز مادية عالية مقارنة بأقرانهم من القوى العاملة تصل إلى الضعف إن لم تكن أربعة وخمسة أمثال متوسط الرواتب في الدولة، غير أن العاملين فيها كانوا يكرهون الشركة والعملاء على حد سواء، ويكرهون ثقافة الشركة في الخفاء، ومن وجد منهم فرصة للانتقال من الشركة سارع باقتناصها، إلى حد استقالات جماعية لفرق في تلك الشركة! وهي شركة كبرى متعددة الجنسيات.
وعلى ذلك ينبغي أن يُعلم أن سعادة العاملين الحقيقية في العمل -وليست الناتجة عن الرفاهيات التي تقدمها الشركة- وشعورهم بالانتماء إليها ينبع أصلًا من قيمة ما ينتجونه في تلك الشركة، والكيفية التي ينتجونه بها، وأسلوب العمل بين أعضاء الفريق وبين الإدارة.
الحصول على ولاء الموظفين
تمامًا على ما ذكرنا أعلاه، فإن فتح مجال النقاش المثمر حول الأفكار والمشاريع واتباع الأصلح منها دون تحيز أو كِبر يزيد من احترام الموظفين للإدارة، وقد تحتاج إلى ذكر هذا شفاهة أحيانًا للموظف أو أثناء الاجتماع حين تشتد لهجة الحديث حول أحد البنود ويجتهد كل فرد في إظهار وجهة نظره، بأن يذكر أعضاء الفريق بعضهم بعضًا بأنهم مجتمعون لاتخاذ قرار يصب في مصلحة الشركة، وأن الاقتراح الذي يخدم هذا الهدف هو الأولى بالاتباع، وأن انتقاد الأفكار الأخرى لبيان صحتها من عدمها، وليس قدحًا في من يقدمها.
وهكذا مع الوقت سيتعود أعضاء الفريق على موضوعية النقاش والعدل فيه، ونسبة الفضل لأهله، ومن ثم تصل الأفكار الفضلى فقط إلى حيز التنفيذ، ويرى الموظفون نتيجة ذلك بأعينهم، فيشعرون بقيمة الاقتراحات التي يقدمونها.
كذلك من الطرق التي تزيد بها ولاء الموظفين هو ترك حرية التصرف المشروطة للموظفين الأكفاء، بحيث لا يحتاجون للرجوع إلى الإدارة في كل صغيرة وكبيرة، بل يُقرَّون على القرارات الصحيحة التي اتخذوها دون الرجوع إلى الإدارة رغم ضرورة ذلك لتعذر الاتصال مع المدير أو لحاجة الموقف إلى التصرف السريع، وهذا ينافي البيئة الصارمة الهرمية التي لا تُحرك فيها ورقة إلا بإذن خطي مكتوب وقع عليه عشرون مكتبًا!
ومنها أيضًا إفساح الطريق للدماء الجديدة أن تتولى مسؤوليات أكبر كلما سنحت الفرصة، وهو أمر كنت أحبه كثيرًا في كل مرحلة أمر بها في حياتي، من الدراسة إلى العمل في الشركات إلى التجارات التي أدرتها، ربما لكراهيتي للإدارة الدقيقة أو لأني لا أستطيع التعامل مع التفاصيل الصغيرة دون أن أفقد الصورة الكبيرة التي يفترض بي الانتباه إليها، ومما رأيت فإن أغلب الأسباب التي تمنع المدراء من تولية المسؤوليات للكوادر ذوي الخبرة الأقل من غيرهم هو الخوف من إفساد العمل، وهذا يعالج بالتدريب الجيد قبل تولي تلك المسؤوليات.
وكذلك، فمن ناحية أخرى، يزيد التأخر في ترقية ذوي الكفاءات رأسيًا من رغبتهم في ترك الشركة، وهو أحد أسباب ترك الشركة متعددة الجنسيات التي ذكرتها في النقطة السابقة، فكانت الشركة تحرك الموظفين أفقيًا دون ترقية رأسية حقيقية، فكانت النتيجة أن الموظف ينظر إلى عمره يجري منه دون نيل ما يستحقه في تلك الشركة، في نفس الوقت الذي يحصل فيه زميله زيد أو عمرو في شركة أخرى على المزايا التي يطمح هو إليها، فيترك الشركة غير آسف عليها.
وتلك حالة طفت على السوق المصرية التقنية في الأعوام الثلاثة الأخيرة، حيث دخلت السوق بضع شركات رفعت سقف المنافع الوظيفية والرواتب للعاملين في البرمجة والتصميم وغيرها بمقدار جعل العاملين في الشركات المصرية البرمجية يوازن بين راتبه ومنافعه التي يحصل عليها مع تلك التي في الشركات الجديدة، فيرى أنها تساوي ثلاثة أمثالها على الأقل! ويحدثني أحد أصدقائي الذين يعملون في تلك الشركات، وهو يعمل في شركة سعودية برمجية من مكتبها من مصر، أن تلك الشركات شهدت هجرة خمسة إلى ستة موظفين في كل شهر، بمقدار اضطر باقي الشركات إلى رفع سقف تلك المنافع، ومن لم يستطع أوشك على الخروج من السوق أو خرج بالفعل!
ومما لم نذكره أو ذكرناه لمامًا من قبل في السلسلة، هو مظاهر الاهتمام الشخصي بالعاملين التي تترك أثرًا طيبًا في نفوسهم، مثل سؤال المدير عن حالة الموظف الشخصية أو العائلية عند تغيبه فجأة أو طلبه إجازة طارئة، وتوفير الدعم المادي له دون سؤال من الموظف إزاء ذلك الطارئ قدر المستطاع، أو ملاحظة الموظف ذي الأداء الضعيف مرة بعد مرة ثم سؤال زملائه عن حالته الاجتماعية لربما لديه مشاكل في أسرته أو ضغوط نفسية أو مادية أخرى، قبل الحديث معه هو شخصيًا حول تلك المشاكل وإبداء تفهم سبب ضعف الأداء والرغبة الصادقة في مساعدته للخروج من تلك الظروف إما بإجازة أو دعم مادي أو ترشيح من يقدم استشارات أسرية أو طبية أو غير ذلك.
وأؤكد أن تلك الأمور قد تبدو تافهة بادي الأمر، غير أني رأيت من يعاملني بمثلها ورأيت أثرها في نفسي، فقد عدت مرة من إجازة فقام إلي أحد زملائي يستقبلني فرحًا بعودتي وكان معه وجبة خفيفة في يده اشتراها لنفسه فأهدانيها، وأسعدتني هذه اللفتة البسيطة أيما سعادة، وحفرت حفرًا في نفسي إلى الآن بعدما مر عليها نحوًا من عشر سنين!
وكذلك انتقلت إلى مدينة جديدة للعمل منها قبل بضعة أشهر، وظللت يومًا أو يومين من وصولي دون سكن مناسب، فسألني مدير فريقي عن هذا وعرض علي أن يكلم بعض من يعرفهم في المدينة إن كانت لديهم خيارات سكن مناسبة أو يستطيعون إخباري بمن لديه مثل هذا، بل عرض علي مالًا إن كنت أحتاج إلى المال، وأعيد القول بأن مثل هذه اللفتات البسيطة تترك بالغ الأثر في نفس من يتلقاها.
ومثله ملاحظة الموظف ضعيف الأداء، فبدلًا من البدء باللوم والتقريع، ينبغي النظر إلى سلوكه العام فلربما لديه مشاكل كما ذكرنا، وحينئذ يكون الحل في إجازة بدلًا من الجزاء!
ومنه أيضًا الاعتراف والإشادة بإنجازات الموظف، وقد ذكرنا هذا في موضع سابق من السلسلة غير أنها تستحق التوكيد عليها، فالإشادة بمجهود الموظف لا ينتقص من المدير بل يزيد إليه، فنجاح الموظف نجاح لسياسة المدير في الغالب، والتنحي جانبًا ليتقدم الموظف في الحديث أو الاقتراح أو العرض أو حل المشكلة دلالة على حكمة المدير ونضجه، فكذا ينبغي أن يكون كل راعي أو في منصب إدارة، بأن يكون آخر من يتحدث، وأحكم من ينطق، وأعدل من يحكم، وأول من يساعد.
خاتمة
تحتاج الشركات إلى الاستثمار في التكنولوجيا المناسبة لدعم العمل عن بُعد طويل الأجل، وكذلك الاستثمار في بناء علامة تجارية، بالإضافة لتعلم كيفية بناء الثقة والولاء في بيئة العمل عن بُعد، وبذل المزيد من الجهود في تطوير الفرق العاملة عن بُعد وإظهار المزيد من التعاطف والتفهم مع المشاكل التي يواجهها العاملون عن بُعد.
وبعد، فقد أردنا في هذه السلسلة أن نخاطب المدير الذي لديه فريق أو شركة يود نقلها لتعمل عن بعد، أو كان انتقل بالفعل ويشق طريقه في هذا النمط الجديد، أو لا يزال يفكر في إنشاء شركة جديدة، وقد ذكرنا فيه أبعاد هذه البيئة الجديدة وأكثر التحديات التي واجهتنا وغيرنا أثناء العمل فيها، وكيفية التغلب عليها، لتكون دليلًا للمدير يرجع إليه كلما أشكل عليه أمر.
وقد كان جاي كاوازاكي -مؤلف كتاب فن البداية The Art Of The Start- يحدّث رواد الأعمال المقبلين على إنشاء شركات جديدة أن اﻷمر صار سهلًا هذه الأيام -وذلك قبل نحو عشر سنين- بما أنهم لن يحتاجوا إلى شراء الخوادم والبنى التحتية إذ توفرها أمازون ومايكروسوفت وغيرها، فكيف لو أردنا تكرار النصيحة لمن يريد إنشاء شركة الآن وقد انتفت الحاجة حتى إلى مقر حقيقي للشركة؟!
فإني أرى الآن أن إنشاء الشركة الجديدة صار من السهل للغاية من حيث التكاليف المادية والبنى التحتية اللازمة لها، بل توفرت مزية لم تكن متاحة من قبل، وهي سهولة توظيف الكفاءات حتى لو كانت في دول أخرى بعيدة دون الحاجة إلى نقلهم إلى مقر عمل الشركة وتقديم تسهيلات مادية وإدارية لجلبهم، فأي شيء يراد بعدها؟
ونحن نأمل بهذه السلسلة أن نشجع كثيرًا من القراء على إنشاء شركات عربية جديدة تخدم السوق العربي ابتداءً ولا حرج عليها في توسيع عملها إلى أسواق جديدة، فقد ازدهرت السوق الرقمية العربية والتجارة الإلكترونية ووسائل الدفع وتطورت البنى التحتية بما لا يدع حُجَّة لمعتذر، وكما رأينا الفائدة التي عادت على القراء من الكتب السابقة في أكاديمية حسوب، إلا أن فائدة مثل هذه السلسلة ستكون أكبر وأعلى كثيرًا، بما أن القارئ قد ينشئ شركة أو يطورها فيعود النفع على السوق العربية ككل، وليس على شخصه فقط.