تُعَد ساعات العمل المُثلَى إحدى أكثر عناصر حياتنا ثباتًا، ويرى أغلب الناس أن ساعات العمل المثالية قريبة من 8 ساعات في اليوم، حيث تؤكد البيانات ذلك، وتتبع معظم دول العالم نظام 8 ساعات في اليوم.
وفق مكتب إحصاءات العمل الأمريكي، يبلغ متوسط ساعات عمل الموظف الأمريكي 8.8 ساعة في اليوم.
يرى أغلبنا أن متوسط مدة ساعات العمل في اليوم لا علاقة لها تقريبًا بمدى كفاءة أو إنتاجية هذا النظام، فما هو معدل ساعات العمل المناسب إذًا؟
هناك الكثير من القصص حول أشخاص حققوا النجاح، بعضهم يعمل 4 ساعات في الأسبوع، بينما يعمل آخرون حتى 16 ساعةً في اليوم، لذا من الصعب معرفة المقدار الأمثل من ساعات العمل، وبدلًا من التخمين، إليكم بحثًا حقيقيًا حول ساعات العمل والطريقة المثلى لاستغلالها بهدف تحقيق السعادة والنجاح.
أصل نظام العمل المؤلف من 8 ساعات في اليوم
يُعَد نظام 8 ساعات في اليوم هو المعيار القياسي في أغلب أنحاء العالم، لكن من أين أتى هذا النظام؟ الجواب هو الثورة الصناعية.
في أواخر القرن الثامن عشر، عندما بدأت الشركات في تعظيم مخرجات العمل في المصانع إلى الحدود القصوى، كان السبيل إلى ذلك هو تشغيل المصانع طوال اليوم وعلى مدار الأسبوع، ولجعل العملية أكثر كفاءةً، اضطر الموظفون إلى العمل مدةً أطول، وتراوحت ساعات العمل عادةً بين 10 إلى 16 ساعةً في اليوم.
بالطبع، لم تكن ساعات العمل الطويلة جدًا قابلةً للاحتمال أو الاستمرار، لذا بدأ رجل شجاع، يدعى روبرت أوين، حملةً بهدف تقليص ساعات العمل إلى 8 ساعات، وكان شعار حملته 8 ساعات للعمل، 8 ساعات للاستجمام، 8 ساعات للراحة.
بعد فترة ليست بالطويلة، طبّق هنري فورد نظام العمل هذا، وغيّر معايير العمل حتى اليوم:
“كانت شركة فورد لصناعة السيارات أول شركة تطبق هذا النظام عام 1914، ولم يسهم ذلك في تقليص مدة العمل إلى 8 ساعات فحسب، بل تضاعفت أجور العمال في النهاية، وقد صُدمت عدة شركات أخرى من هذا النظام، فكانت إنتاجية شركة فورد تعتمد على العدد ذاته من العمال، لكن ساعات العمل الأقل زادت هامش ربح الشركة إلى حد كبير، ووصل معدل الزيادة إلى الضِّعف خلال سنتين فقط، لذا تشجعت الشركات الأخرى على تبني نظام 8 ساعات في اليوم، وجعلته المقياس المعياري في العمل”.
في النهاية، يمكننا القول إن نظام 8 ساعات لم ينجم عن دراسة علمية أو تفكّر طويل، بل هو قاعدة متّبعة عمرها أكثر من قرن، بهدف إدارة وتشغيل المصانع بأعلى كفاءة ممكنة.
إدارة الطاقة لا الوقت والنظم فوق اليومي عدد ساعات العمل غير مهمة
في ظل الاقتصاد الخلّاق الذي نعيشه اليوم، لا يلقى عدد ساعات العمل كثيرًا من الأهمية، بل يجب التركيز على طاقة المرء، وهذا ما قاله الكاتب المشهور توني شوارتز:
“أدِرْ طاقتك لا وقتك”.
يوضح شوارتز أن البشر يملكون 4 أشكال من الطاقة يديرون بها حياتهم اليومية، وهذه الأشكال هي:
- الطاقة الجسدية: ما حال صحتك؟
- الطاقة العاطفية: ما مدى سعادتك؟
- الطاقة العقلية: ما مدى تركيزك على وظيفة ما؟
- الطاقة الروحية: لماذا تؤدي هذه الوظيفة؟ ما هدفك؟
من السهل نسيان أننا بشر مختلفون كليًا عن الآلات، وجوهريًا، تتصرف الآلات خطيًا، بينما يتصرّف البشر دوريًا، أي يمرون بتقلبات في النشاط والراحة.
للحصول على يوم عمل فعّال ومُجدٍ، علينا احترام طبيعتنا البشرية، والتركيز أولًا على النظم فوق اليومي.
ببساطة، بإمكان الدماغ البشري التركيز على أي وظيفة لمدة تتراوح بين 90 إلى 120 دقيقةً؛ أما بعد هذه المدة، فعلينا أخذ استراحة تتراوح مدتها بين 20 إلى 30 دقيقةً حتى نستأنف أعمالنا ونحقق أفضل أداء لنا في الوظيفة التالية، وإليك هذا التمثيل البياني للنظم فوق اليومي.
بدلًا من أن تسأل نفسك عن ما الذي أستطيع إنجازه خلال 8 ساعات في اليوم؟ عليك التفكير بالسؤال التالي: ما الذي أستطيع إنجازه خلال جلسة مدتها 90 دقيقةً؟
بعد تقسيم عملنا إلى جلسات مدتها 90 دقيقةً، علينا تقسيم تلك الدقائق التسعين كذلك.
التركيز جوهر يوم العمل المثمر
أهم ما يجب علينا فهمه بخصوص تدفق العمل هو قدرتنا على التركيز ومدى جودة هذا التركيز، وقد أجرى جاستن غاردنر مشروعًا بحثيًا مذهلًا، ووجد أن التركيز الحقيقي يتطلب من دماغنا استخدام عملية مؤلفة من خطوتين هما:
- تنمية الإحساس: أي رؤية مشهد أو هيكلٍ ما واستيعاب جميع المعلومات المعروضة، ثم التركيز على الأمور التي تسترعي انتباهك، وهذا الأمر أشبه بصورة مشوشة تتضح رويدًا رويدًا.
- الانتقاء الفعّال: هنا يحدث التعمّق في الوظيفة المطلوبة، وهنا يدخل دماغنا في حالة التركيز Flow، وهو المصطلح الذي صاغه عالم النفس ميهاي تشيكسانتميهاي، إذ يبدأ هنا تركيزنا على الوظيفة المطلوبة.
يصف الشكل التالي هذه الفكرة أفضل وصف ممكن:
في الشكل A، تُعرض على الدماغ وظيفة واحدة، فيكون قادرًا على الفصل بين العوامل المشتتة (ملونة بالأزرق) والأمور التي من الضروري أن نركّز عليها (ملونة بالأصفر)؛ بينما في الشكل B، يُعرض على الدماغ عدة وظائف في آن واحد، لذا من السهل أن يُصاب دماغنا بالتشتت، ويبدأ الخلط بين الوظائف الحقيقية والمشتتات.
الخلاصة الرئيسة من هذه الدراسة هي ضرورة أداء أمرين:
- الامتناع عن تعدد المهام لتتجنّب التشتت في مكان العمل.
- إزالة العوامل المشتتة حتى أثناء أداء وظيفة واحدة.
يبدو هذا الكلام واضحًا، لكن الالتزام به يوميًا ليس بالأمر السهل، وعلى أي حال، بإمكانك تغيير هيكلية عمل دماغك كي تتعلّم التركيز على المهام، وإليك بعض النصائح:
أفضل 4 نصائح لتحسين يوم العمل
هناك 4 تغييرات عليك أداؤها كي تتمكن من تطبيق البحث السابق بأفضل طريقة، وهذه التغييرات هي:
- حاول -يدويًا- زيادة أهمية الوظيفة التي تؤديها: قد يجد الكثيرون صعوبةً في التركيز على الوظيفة المطلوبة، خصوصًا إن لم يكن هناك موعد نهائي محدد لإنجاز العمل، لذا عليك تجاوز نظام انتباهك والسيطرة عليه، حيث ثبت أن وضع موعد نهائي من اختيارنا وربطه بمكافأة عند إنجاز المهمة، يؤديان إلى تحسينات ملحوظة في أداء وإنجاز المهام، وذلك وفقًا للباحث كيسوكه فوكودا Keisuke Fukuda.
- قسّم نهارك إلى فترات مؤلفة من 90 دقيقة: بدلًا من العمل 8 أو 6 أو 10 ساعات في اليوم، قسّم هذه المدة الإجمالية إلى أجزاء أصغر، بحيث تبلغ مدة كل جزء 4 أو 5 ساعات مثلًا؛ أو قسّمه إلى فترات مدة كل واحدة منها 90 دقيقةً، حيث ستتمكن وفق هذه الطريقة من إنجاز 4 وظائف يوميًا وبسهولة.
- نظّم وقت الراحة كي تستفيد فعليًا من هذا الوقت: يقول توني شوارتز “الإنسان المعافى هو مَن يستغل وقت راحته بالطريقة المثلى، وليس مَن يفوز في سباق الركض”، ومع ذلك ننشغل في كثير من الأحيان بتنظيم وتخطيط يومنا لدرجة أننا ننسى أخذ قسطٍ من الراحة، لذا خطط مسبقًا لهذا الوقت، وبإمكانك أخذ قسط من الراحة عبر القراءة أو التأمل أو تناول وجبة خفيفة أو أخذ قيلولة قصيرة.
- لا للتنبيهات: إحدى أفضل الطرق للتركيز على العمل هي تجنّب النظر إلى الإشعارات والإخطارات الواردة على الهاتف أو الحاسوب، والتي تسهم في كسر حلقة التركيز، لذا إذا لم تجرّب هذا الأمر، فعليك إطفاء أي جهاز رقمي قد تصله إشعارات أو تنبيهات.
بعد تطبيق هذه النصائح، ستجد أن حياتك انقلبت كليًا، وستحصل على سعادة كبيرة من خلال تنظيم الوقت، فتنجز الأعمال وتحظى بالسعادة في الآن ذاته.