لا يزال الجدل قائمًا حول نوعية العمل الملائمة أكثر، فنجد البعض مؤمنًا بأفضلية العمل الحر؛ وعلى النقيض تمامًا، يؤمن بعضهم بأفضلية العمل الوظيفي. وقد شاعت مؤخرًا اعتقادات تصف الوظيفة بالعبودية، وتدعو إلى التوجه نحو العمل الحر. وتكمن بعض الأسباب وراء تلك الاعتقادات في تحكّم بعض رؤساء العمل بالموظفين، ودخل الوظيفة المحدود، وكذلك طول ساعات العمل. فهل حقًا الوظيفة عبودية؟ وما هي محاسن ومساوئ كلٍّ من العمل الوظيفي والعمل الحر؟ دعنا أولًا نتعرف على الفرق ما بين العمل الوظيفي والعمل الحر.
الفرق بين العمل الوظيفي والعمل الحر
المقصود بالعمل الوظيفي هو أن تعيّن شركةٌ ما شخصًا ما؛ لأداء عدد من المهام، مع الالتزام التام بإنجازها ضمن ساعات عمل محددة، وذلك على النحو الذي يحدده صاحب العمل، ويتقاضى الشخص أجرًا ثابتًا مقابل ذلك؛ أما العمل الحر، فهو أن يعمل الشخص لحسابه الخاص، ولشركات مختلفة على حسب المطلوب، دون الالتزام بساعات عمل محددة.
يكمن الفرق الأساسي بين الوظيفة والعمل الحر في أن الشخص في الوظيفة يعمل تحت إشراف شخص آخر ضمن قيود عمل والتزامات محددة، بينما يكون سيّد نفسه في العمل الحر، ويعمل دون أيّة قيود تفرضها عليه مكاتب العمل؛ ناهيك عن الكثير من الفروق الأخرى التي تجعل الكثيرين يفضلون طبيعة العمل المستقل، لأنهم رؤساء أنفسهم، وأحرارٌ في اتخاذ قراراتهم بأنفسهم، ولا أحد يملي أوامره عليهم.
محاسن العمل الوظيفي
هناك العديد من المزايا التي تجعل من العمل الوظيفي خيارًا مفضلًا للكثيرين. تعزّز تلك المزايا الرضا الوظيفي لدى الموظفين، وبالتالي تزيد من إنتاجيتهم وكفاءة عملهم. سنذكر أهم تلك المزايا في السطور القادمة.
1- الأمن الوظيفي
يتمتع الموظف بالاستقرار من الناحية المالية، حيث يحصل على راتب منتظم ومتوقَّع كل شهر، والذي يمكنه الاعتماد عليه في بناء خططه المستقبلية، وبالتالي ليست هناك حاجة للقلق بشأن عدم الحصول على الأجر أو الفصل من العمل. في حال تعرّض الموظف للفصل، فعادةً ما يُنذَر من قبل رئيس العمل قبل ذلك بفترة، ويُعوَّض عن ذلك.
لكل وظيفة تشريعاتها التي تحمي مستقبل الموظف من خطر وقوع أية مشاكل محتملة من شأنها أن تهدّد أمنه الوظيفي.
2- الاستقرار
يكون نظام العمل في الوظيفة واضحًا وجليًّا منذ البداية، كما توفر الوظيفة للموظف جدول عمل محدد ضمن مساحة عمل محددة، الأمر الذي يخلق لديه شعورًا بالاستقرار.
3- استحقاقات الموظفين
توفر الوظيفة لصاحبها عدة مزايا ينتفع بها، مثل: الإجازات مدفوعة الأجر، والإجازات المرضية، وإجازة الأمومة، والتأمين الصحي، وخطة التقاعد، والحصول على معاش بعد التقاعد، والضمان الاجتماعي، وغيرها. هذا ما يجعل الحياة أفضل بكثير للموظف بالنسبة لصحته وأسرته.
4- امتيازات خاصة
إلى جانب الانتفاع بالامتيازات الأساسية التي ذُكرَت سابقًا تحت بند استحقاقات الموظفين، ينتفع الموظف بعدد من الامتيازات الخاصة، مثل الاشتراكات المجانية في النوادي الرياضية، والهدايا، والحصول على خصومات تغطي قطاعات محددة، كالمقاهي. ومن تلك الامتيازات أيضًا الحصول على ترقيات، وبعثات دراسية، وحضور تدريبات ودورات تنظّمها الشركة من شأنها تطوير مهارات الموظف.
5- بناء شبكة اجتماعية
تتيح طبيعة العمل الوظيفي للموظفين تكوين علاقات اجتماعية مع زملائهم. يأتي هذا من منطلق أنهم يعملون معًا يوميًا في نفس المنشأة، وبالتالي بإمكانهم تكوين صداقات طويلة الأمد مع بعضهم البعض. وتلعب الشركة دورًا كبيرًا في ذلك من خلال تنظيمها لرحلات للموظفين، وجلسات في المناسبات الاجتماعية، وعقدها لدورات وبرامج تدريبية.
مساوئ العمل الوظيفي
على الرغم من تلك المزايا الرائعة للعمل الوظيفي، إلا أننا نجد له بعض العيوب أيضًا، ومنها:
1- السيطرة والتحكم
للموظف رئيسٌ يخبره بما عليه فعله ضمن قواعد محددة، أي أن لديه سيطرةً أقل على عمله، في حين يتمتع المستقل بالسيطرة الكاملة على عمله بما يشمل نواحٍ عديدة، مثل وضع جدول زمني للعمل كما يريد، والحرية المطلقة في قبول تعليمات العمل من رفضها.
2- جبروت رؤساء العمل
مع الإشارة إلى أن هذا الوصف لا ينطبق على جميع الوظائف، ولا على جميع الشركات، إلا أن أحد أهم أسباب تشبيه الوظيفة بالعبودية هو جبروت رؤساء العمل، فمنهم مَن يُعامل موظفيه كأنهم عبيد لديه، بحيث ليس من حقهم الاعتراض على أوامره أو مناقشتها، وليس هناك الكثير ممّا يمكنهم تغييره أو تحسينه. أي أن الموظف مقيّد برئيسه، ويعتمد على قرار رئيسه وسياساته في سير العمل.
3- ساعات عمل طويلة
قد تزيد عدد ساعات العمل الوظيفي عن 8 ساعات يوميًا في سبيل تحقيق الأهداف المهنية، والحصول على راتب شهري ثابت. ومن هنا نستنتج أن العمل يستهلك معظم الوقت، ما يخلق شعورًا بعدم وجود توازن بين العمل والحياة، فالوقت ثمين، وهو أهم ما يمكن للشخص أن يمتلكه. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه كلما زادت عدد ساعات العمل، قلت كفاءة العمل، وقلت قدرة الموظف على الإنتاج.
4- دخل محدود
أحد مساوئ العمل الوظيفي هو الدخل الثابت غير القابل للزيادة والرضا بذلك دون ترقية أو أي تغيير يُذكر، ناهيك عن قلة راتب بعض الموظفين في بعض الأقسام الوظيفية، فيجد الموظف نفسه حبيس تلك الوظيفة وذلك الراتب طوال حياته، مع صعوبة تحصيل عمل آخر جانبي من شأنه تحسين دخله.
5- الخوف المستمر من عقوبات العمل
كما ذكرنا سابقًا، إن سيطرة وتحكم صاحب العمل بالموظف تجعله مجبرًا على تنفيذ المطلوب دون اعتراض، وهذا لا ينطبق على جميع الشركات ورؤساء الأعمال بالتأكيد، لكنّ المستبدّين منهم يُولّدون خوفًا مستمرًا لدى الموظفين من فرض عقوبات عليهم أو حتى الفصل من العمل ككُل إن لم ينجزوا المهام على الهيئة المطلوبة. هذا ما يهدّد أمن حياتهم بفقدان مصدر رزقهم الوحيد.
6- قد تكون الوظيفة مقبرة للإبداع والطموح
عندما يعمل الموظف لصالح مَن لا يُقدّر جهده المبذول؛ فإنه لن يعمل بأفضل ما عنده، ولن يُبدع في عمله. وإذا كانت الوظيفة ضد فطرة الإنسان، ولم تعطِه حق الإبداع، فهي ليست الخيار المناسب له.
محاسن العمل الحر
بما أن العمل الحر لا يتطلب شهادات علمية؛ فمن السهل على الشخص اختيار المجال الذي يرغبه بناءً على اهتماماته وخبراته. إذًا ما هي فوائد العمل الحر التي من شأنها تشجيع ذلك الشخص على البدء به؟
1- الحرية الكاملة
لمن يرغب في أن يكون رئيسًا لنفسه، وأن يملك الحرية المطلقة في اختيار العمل الذي يريده والعميل الذي يريده، العمل الحر هو الخيار الأفضل، مع إمكانية العمل لدى عدة عملاء في نفس الوقت، فلا قيود أو قوانين ثابتة على المستقل اتباعُها، وبإمكانه اتخاذ جميع القرارات بنفسه، بالتالي تكون لديه كامل السيطرة على العمل.
2- المسؤولية الذاتية
من محاسن العمل الحر أن التقييم فيه ذاتي، فالمستقل هو المسؤول عن تقييم نتائج عمله ومشاريعه ودخله، إذ لن تكون لديه أية فرصة للاختباء خلف غيره عندما يتعلق الأمر بالوفاء بالمواعيد النهائية أو جودة العمل. ويحدِّد تقييم العملاء مدى التزام المستقل وخبرته في مجال عمله، حيث تعدّ التقييمات الجيدة في مجال العمل الحر أكثر قيمةً من المال، فهي تجلب للمستقل وظائف وعملاء جدد، وبالتالي مزيدًا من الأرباح.
من خلال تلك التقييمات يبني المستقل لنفسه اسمًا وسمعة، فيصل إلى أهدافه المهنية المرجوّة.
3- مرونة متطلبات العمل
ليست هناك حاجة لتخصيص مساحة عمل بعينها أو ساعات عمل محددة، فالعمل الحر مرن بطبيعته، ففي الوقت الذي تبدأ فيه بالعمل الحر، تصبح الكرة في ملعبك. يمكن للمستقل العمل من أي مكان، وفي أي وقت تحب، وأخذ قسط من الراحة عندما يستلزم الأمر، بالتالي يستطيع الموازنة بين العمل والحياة؛ ولكن تنبغي الإشارة هنا إلى أهمية ترتيب الأولويات، ومحاولة السيطرة على سير العمل بشكل جيد. مرونة ساعات العمل لا ينبغي لها أن تجعل من المستقل متكاسلًا تاركًا المهام الموكلة إليه إلى الساعة الأخيرة؛ لأن العواقب في النهاية ستكون وخيمة بالتأكيد.
4- مصدر دخل غير محدود
إحدى أهم الميزات التي تُشجع المرء على التوجه نحو مجال العمل الحر هي عدم وجود حدٍّ للدخل الممكِن كسبه، فمَن يمتلك مهارات متنوعة، يستطيع العمل على مشاريع متعددة في نفس الوقت، وبالتالي تتعدّد مصادر دخله، وإمكانية التحكّم في أرباحه.
5- توسيع آفاق المعرفة
نظرًا إلى أن العمل الحر لا يُقيّد صاحبه بمجال معين، فسيكتسب الفرد مهارات جديدة ومتنوعة مع كل تجربة عمل جديدة بحُكم متطلبات العمل المختلفة، فيجد الفرصة سانحةً أمامه لتعلم شيء جديد في كل مرة، وهذا ما يجعل أداءه أفضل مع مرور الوقت، ويزيد من خبراته. والنصيحة الأهم هنا أن يمارس ما تعلمه شيئًا فشيئًا، وينفذه في أعماله القادمة. كما أن ذلك يُولّد لديه طاقة للخوض والتوسّع في مجالات كان يظنها صعبة عليه في أحد الأيام، لذلك على المستقل ألّا يكتفي بالمهارات التي يمتلكها بالفعل، بل عليه أن يعمل على تطوير نفسه باستمرار، وأن يتعرف على نقاط ضعفه، ويعمل على التغلب عليها.
6- بناء مهارات التواصل مع الآخرين
يساعد العمل الحر المرء على صقل مهارات الاتصال والتواصل مع الآخرين بما يخدم حاجته في إدارة وإنجاز المشاريع، وإدارة علاقاته مع العملاء، والتأكد من فهمهم له بالشكل الصحيح. التواصل الفعّال هو أساس نجاح أي عمل، خاصةً إن كان عملًا حرًا، حيث يجعله على قدر كبير من الالتزام، ويكسبه مهارات جيدة في إدارة الوقت. كما ويساعد على مشاركة الأفكار مع الطرف المتلقي، بالتالي إمكانية تحويل العملاء المحتملين إلى عملاء مخلصين، أي دائمين، وذلك عبر ترك انطباع جيد لديهم، وكذلك بناء علاقات قوية تزيد من فرصة الحصول على المزيد من العمل في المستقبل، وتحقيق أقصى استفادة ممكنة على صعيد الحياة المهنية المستقلة على المدى البعيد.
مساوئ العمل الحر
يتطلب العمل الحر تخطيطًا وإعدادًا دقيقًا؛ لذلك قبل البدء به، على المرء أن يكون على دراية بمساوئه وسلبياته التي سنذكر تاليًا بعضها منها.
1- مصدر دخل غير ثابت
قد يظل المستقل فترةً غارقًا في العمل، وأخرى دون أي عمل يُذكر، بالتالي لن يكون دخله مستقرًّا، ولن يتمكّن من وضع خطط مستقبلية. إذًا العمل الحر يصعّب على المستقل أمر تنظيم وإدارة شؤونه المالية، خاصةً إن كان في بداياته، إلّا إذا تعددت مصادر دخله بتعدد العملاء الذين يتعامل معهم؛ فسيكون الأمر مختلفًا حينها.
2- انعدام الأمن الوظيفي
يفتقر العمل الحر إلى ميزة الأمن الوظيفي، حيث لا يمكن التنبؤ بمستقبله، فقد يصبح عمل اليوم الذي يعتاش عليه المستقل عملًا عاديًا في المستقبل ويقل الطلب عليه، بالتالي يصبح بلا عمل. ولتفادي ذلك، على المستقل مواكبة الطلب في السوق، وتطوير مهاراته، والانفتاح على مجالات جديدة بتوسيع آفاق معرفته.
3- عدم وجود امتيازات وظيفية
لا توجد في العمل الحر امتيازات، كما هو الحال في العمل الوظيفي، حيث لا يحصل المستقل على أي نوع من الإجازات مدفوعة الأجر أو معاش بعد التقاعد أو تأمين صحي، كما أن أي دورة تدريبية قد يرغب بحضورها ستكون على نفقته الخاصة.
4- المنافسة شديدة
المنافسة في عالم العمل الحر شديدة، وربما يكون هذا أحد أكبر الأسباب التي تثبّط من معنويات المستقلين، خاصةً المبتدئين منهم؛ وذلك لكثرة عدد مقتنصي الفرص. كذلك، يُعَد الأمر مُحبطًا بالنسبة لذوي الخبرة، حيث يتقدّم عدد كبير من عديمي الخبرة بعروضهم للعمل، وفي ظل ذلك يضطر المستقل المحترف لقبول العمل بسعر منخفض، وإلّا يبقى بلا عمل.
5- الاتصال الدائم بالإنترنت
العمل الحر بطبيعته قائم على الإنترنت، فهو وسيلة الاتصال بين المستقل والعميل، ومن دونه من الصعب أن ينجح العمل. هذا ما يفرض على المستقل الارتباط الدائم بالعمل، والبقاء متصلًا بالإنترنت خوفًا من فقدان العملاء الحاليّين أو تفويت أي عملاء جدد.
هل الوظيفة عبودية فعلا؟
يستند روّاد هذه الفكرة في رأيهم إلى أن الوظيفة تجعل الموظف تحت رحمة رئيس العمل، وبالتالي تُدخِله في حالة الانقياد ومحاولة الحفاظ على الوضع الحالي والخوف من التغيير، فأي تغيير لن يكون مقبولًا، وسيكون الحل أمامه الاستقالة من العمل، وبالتالي فقدان مصدر رزقه؛ لكن، لا أحد يستطيع أن ينكر الخدمة العظيمة التي تقدمها الوظيفة للمجتمع، ودونها لن نجد معلمًا أو مهندسًا أو طبيبًا أو غيرهم ممّن لهم بصمة كبيرة في حياتنا. من هنا نستنتج أن الوظيفة ليست عبودية طالما وفّرت لصاحبها عيشًا كريمًا ضمن ظروف عمل مناسبة تمكّنه من تطوير ذاته وصقل مهاراته وتحمّل مسؤولياته.
في الختام
في عالم اليوم، قد يكون من الصعب التمييز بين أنواع التوظيف، فقد يتطور العمل الحر إلى وظيفة رسمية، في حين قد يتمتع العمل الوظيفي بظروف عمل مرنة مقارنةً بالعمل الحر. يكمن مفتاح النجاح في التخطيط المناسب، فلا أحد يأمل في ترك عمله مقابل عمل أقل من المرغوب فيه.
وتذكر دائمًا، أيًا كان نوع العمل الذي تختاره، سواء عملًا وظيفيًا أو عملًا حرًا، تأكد من أنه النوع الذي يجعلك سعيدًا وتطلق فيه العنان لإبداعك، فإن حرية القيام بالعمل الذي تستمتع به، والشعور بلذة النجاح هو إنجاز بحد ذاته.
إلى هنا تكون قد تعرّفتَ على محاسن ومساوئ كلٍّ من العمل الوظيفي والعمل الحر، وعلمتَ أنه من الصعب إثبات أفضلية أحدهما على الآخر. الخطوة التالية هي أن تحدّد مسارك، وتختار نمط حياة العمل الذي يناسبك ويناسب مستقبلك، بناءً على شخصيتك وما تطمح إليه.