لا شك أننا خلقنا بأكثر من ثلاث مئة مفصل كي نتحرك بدون مشقة، وذلك لأننا نحتاج الحركة من أجل الوصول إلى مراداتنا المادية والقيام بمهام الحياة اليومية، وذلك أمر بديهي لا يختلف عليه ذي عقل، لكن نمط الحياة الذي ظهر منذ التطور الذي طفر في الأجهزة الإلكترونية في الثمانينات من القرن الماضي قلل الحاجة إلى الحركة والتعب شيئًا فشيئًا حتى صارت أغلب المهام التي ينفذها الموظف الحديث أو كلها تتم من حاسوب واحد، فلا يقوم من مكتبه إلا قليلًا.
ويزيد هذا القدر عند العامل المستقل عن بعد، فحاسوبه هو نافذته على عالم العمل والسوق الذي يكسب منه عيشه، فمن الطبيعي ألا يقوم إلا قليلًا أثناء العمل، هذا إن قام أصلا.
لكن هذا النمط ضار جدًا بصحة الإنسان لما فيه من أذىً للجهاز الدوري والجهاز العظمي، إضافة إلى الضرر الواقع على قوة الإبصار والإجهاد الواقع على المفاصل والغضاريف، هذا ونحن ما ذكرنا بعد نظام الغذاء غير السليم الذي يتبعه أغلب العاملين عن بعد.
وسننظر في هذا المقال في كيفية العناية بالصحة بدءًا من آثار العمل على الحواسيب ثم ذكر الخطوات العملية لتجنب تلك الآثار.
آثار العمل على الحواسيب
تختلف آثار العمل على الحاسوب في مدى إضرارها بالجسد وفقًا لكيفية تهيئة بيئة العمل ونمطه، ونظام عمل المستقل، ونمط طعامه وطريقة عيشه. فكلما راعيت العوامل المناسبة والدقيقة للحفاظ على الجسد في نمط العمل والحياة قلت الآثار الجانبية للعمل على الحواسيب أو المكاتب عمومًا، والعكس بالعكس.
فإن كيفية خلقنا مهيئة لنا كي نتحرك ونسعى في الأرض، ويفرز لك جسدك العرق اللازم لتبريدك عند بذل مجهود بدني فيخرج معه ما يجب إخراجه من جسدك في هذه القناة، ويخبرك جسدك أنك جائع بسبب حركتك واستهلاكك للطاقة التي اكتسبتها من طعامك فتستفيد من عناصر ذلك الطعام، ويخرج ما لا تحتاجه من جسدك.
وهكذا فإنك محفوظ بآليات ترعاك تلقائيًا كلما تحركت، فتعينك بالهرمونات والإفرازات وغيرها مما يضمن بقاء جسدك بالهيئة الصحيحة السليمة.
لكن حين تجلس طول النهار قابعًا على مكتب أو متكئًا على سرير لا تحرك إلا عينيك وأصابع يديك، فإن تلك الأنظمة لن تعمل بالكفاءة نفسها التي كانت عليها حين كنت تتحرك، وعليه فيجب أن تراعي الإرشادات الواردة في هذا المقال وغيره مما يبين طرق الحفاظ على صحتك، لأن نمط العمل الجالس هذا يخالف الطبيعة التي خُلقت عليها، لكن علينا التعامل مع هذا الوضع وعلاج مساوئه وتجنبها إن أمكن بما أن هذا ما يفرضه السوق في العصر الحالي.
الرياضة
لن يكفي كتاب صغير كهذا في الحديث عن فوائد الرياضة والحركة للصحة العامة النفسية والجسدية، لكن يلزمك هنا أن تعرف أن الرياضة إن كانت مفيدة لغيرك فإنها واجبة في حقك بما أن حركتك ستكون قليلة لطبيعة عملك على الحاسوب.
والرياضة التي ننصحك بها ابتداءً هي الرياضات الهوائية التي تحتوي على تمارين كثيرة الحركة تضطر جسدك لزيادة ضربات قلبه ومعدل تنفسه وتحسن من الدورة الدموية ووصول الدم والغذاء إلى أعضاء الجسم المختلفة التي تحتاجهما وأهم هذه الأعضاء لك كعامل مستقل هي المخ لا شك.
وهذا يتحقق بشيء يسير مثل 10 دقائق يوميًا، تزيدها بانتظام مع الوقت إلى ما تشاء، فإن جسدك سيُنهك في أول أسبوعين من هذه الرياضة ثم سيشكرك بعدها ويكافئك في صورة هرمونات تشعرك بالسعادة وتخفف عنك الألم، مثل الدوبامين والسيروتونِن والأوكسيتوسِن وغيرها.
ونفضل أن تخصص لها جدولًا ثابتًا بانتظام ثم تضيفها إلى رزنامتك اليومية كي لا تنساها. ولا تحقرن شيئًا من هذه الرياضة ولو كان ترتيب مكتبك، أو ربع ساعة من المشي وإن كان في قضاء حاجاتك اليومية، فإن هذا يعد حركة أيضًا، لكن كلما زدت كان أفضل، ولو اتبعت نظامًا رياضيًا فهو أحسن كذلك.
وإن هذه النقطة وإن بدت كأنها من تلك الفقرات التي تُذكر في كل حديث عن الصحة لشهرتها، إلا أننا نذكرها هنا من باب الضرورة الواجبة، فالرياضة إن كانت في حق العاملين في الوظائف العادية مستحسنة لتقوية أجسادهم، فإنها في حق العامل عن بعد لازمة من أجل بقاء جسده يعمل بشكل طبيعي كما خُلق.
ذلك أن ستجد نفسك تجلس الساعات الطوال أمام الحاسوب كل يوم، وهذا يفسد دورة عمل جسدك، فعضلاتك التي لا تستخدمها ستضمر، ومفاصلك ستتيبس، وعضلات كتفيك ستتراخى وينحني ظهرك فتضطر إلى رفع رقبتك للأعلى كي تنظر إلى شاشة الحاسوب، وكل ذلك دون أن تشعر أنت، حتى إذا ما مرت عليك سنتين أو ثلاثة من هذا الإهمال رأيت جسدك في حالة مزرية، لا يستطيع ركض مئة متر دون أن ينقطع نفسك، ولا تستطيع الوقوف منتصبًا إلا إذا شددت جسدك لذلك.
هذا ونحن لم نتحدث بعض عن مشاكل النظر والدورة الدموية، فبقاء جسدك في وضعية الجلوس تلك لفترة طويلة سيجعل الدم يتراكم في أوردتك، وإن كنت تستخدم أفضل كرسي وأغلى مكتب! وستفسد صمامات أوردتك من طول الجلوس ذلك حتى تصاب بالدوالي.
وإني أحدثك هنا من منظور من تأذى من كل ذلك أو أغلبه، بعد أن قضيت بضع سنوات أولي عناية بالغة بالرياضة، فقد ألهاني عملي ومر العقد الثالث من عمري سريعًا حتى ألفيت جسدي كأنه أكبر بعشر سنوات! فاحذر أن يجرفك العمل عن بعد إلى هذه المنطقة، ولا تأمن بالقول أنك بعد ما تزال شابًا، بل احفظ شبابك بالرياضة من يومك، ولا تنتظر غدًا أو بعد غد، واعلم أنه مال مدفوع لا محالة، فالأفضل أن يكون في وقاية بدلًا من علاج.
الطعام الصحي
والرياضة لا تكفي وحدها دون الحفاظ على نمط طعام صحي ومنتظم، فمتى يبلغ البنيان تمامه إذا كنت تبني من هنا وتهدم من هناك؟ ذلك أن الأضرار الناتجة عن الطعام غير الصحي يلزمها كثير من الرياضة والحركة لعكسها، فلك أن تتخيل أن رياضة ساعة قد لا تكفي لحرق دهون في شطيرة وكوب مياه غازية وبضع قطع من البطاطس المقلية!
واعلم أنك ما تأكله، حرفيًا، فإن كان أكلك فقيرًا في عناصره التي تحتاجها، وأغلبه أطعمة مصنعة أو معالجة أكثر من مرة فأنى لك أن تكون على هيئة صحيحة معافاة؟
وذلك علاجه بالنظر في الأنظمة الغذائية العلاجية المختلفة مثل نظام الأطعمة الكاملة غير المعالجة ذات الأساس النباتي، أو نظام الكيتو أو غيرهما، ثم استشارة طبيب في اختيار ما يصلحك منها واستبدله في طعامك بالتدريج.
ونحن لا نريد هنا أن ندخل في جدال أي نظام أفضل من غيره، ولا نحرم حلالًا ولا نحلل حرامًا، بل كما نقول ما هي إلا أنظمة “علاجية”، تختار منها ما يوافق جسدك وظروفك.
فإني قضيت مدة لا بأس بها قبل بضعة أعوام لا أُدخل المنتجات المعلبة ولا الأطعمة المصنعة في طعامي، ولا أكثر من اللحوم كذلك، وإن أبيت إلا أكلها فهي مرة كل أسبوع أو أسبوعين، ولا يكون فيها سمن ولا زيت ولا طعام معالج، وأكثرت من الخضر والفاكهة وشرب المياه، وأوقفت القهوة تمامًا. وقد آتى ذلك أُكله معي في تحسن صحتي العامة ومزاجي وقدرتي على التفكير واتخاذ القرارات، وقلل مستوى الإجهاد البدني والذهني، وقلل من زمن تعافي عضلاتي بعد الرياضة.
لكن نفس النظام آذى بعض من أعرفهم حين اتبعه بسبب مشاكل لديه مع هضم الخضر والفاكهة، ولهذا أنصحك ألا تتعصب لنظام غذائي بعينه دون استشارة طبيب مختص.
وفي رأيي فما تلك النظم الغذائية إلا محاولة للعودة إلى الطعام الذي كان موجودًا قبل العصر الصناعي الذي أدخل المعالجات الصناعية على الغذاء، فالشاهد منها أن تأكل وتشرب ولا تسرف، ولا تكثر من الأطعمة المصنعة والمكثِرة من الدهون والملح والسكر.
تنظيم النوم
هذا خطأ نقع فيه أغلبنا كعاملين مستقلين أو عن بعد بشكل خاص، وأغلبنا كقوى عاملة بشكل عام، إذ ستمر عليك أيام تريد إطالة فترة العمل من أجل إنجاز بعض المهام الباقية، فتعطل دورة يومك الحيوية أو تغير نظامها فيتغير معها موعد نومك، وقد تكرر هذا الأمر كلما دعت الحاجة فيصبح موعد نومك متقلبًا بين الأيام وبعضها، فأنت ستعمل من المنزل غالبًا، وعلى الحاسوب، فيمكن إنجاز العمل في أي وقت، أليس كذلك؟ كلا.
قد ذكرنا في أول هذا الكتاب أن أحد الأفكار التي تُسوَّق عند الحديث عن العمل الحر هي المرونة المطلقة للعامل، لكن هذا غير صحيح ولا يستقيم معه نمط حياة صحي مستقر، خاصة إن كنت متزوجًا ولك عائلة تعولها.
وإن الحفاظ على موعد نوم ثابت وبقدر منتظم يوميًا سيفيدك على الأقل من وجهين، أولهما أنك تحافظ على صحتك من الأمراض المرتبطة بالأرق والتوتر وقلة النوم وعدم انتظامه، وستخلي ذهنك من التفكير في العمل سائر اليوم إذ تعلم أن مواعيد العمل من كذا إلى كذا وحسب. كذلك ستحافظ على حياة اجتماعية صحية تصل فيها الرحم وتصلح فيها شأنك وشأن أهلك ومن يهمك أمرهم.
وجرب أن تسأل نفسك عند التفكير في السهر أو إطالة فترة العمل من أجل إنهاء مهام عالقة، هل أنجزت قلة النوم والسهر عملًا ذا جودة من قبل؟
إدارة الوقت
ربما يجب أن نشير هنا إلى ثقافة إدمان العمل (Workaholism) إذ أني أمقتها بشكل خاص، وقد أكد رأيي في هذا كلًا من جيسون فِريد (Jason Fried) وديفيد هانسون (David Hansson) في كتبهما التي يصفان فيها بيئة العمل الهادئة التي تشجع على تقليل وقت العمل ما أمكن، وكيف أن أربعين ساعة أسبوعيًا كافية بل زائدة عن الحد أيضًا للعمل، وكذلك ما ذكره بشكل ضمني كالفن نيوبورت (Calvin Newport) في كتابه العمل العميق (Deep Work).
فبدلًا من إجهاد نفسك في العمل ظالمًا نفسك وأهلك وعازلًا نفسك عن الحياة من أجل العمل والمال وغير ذلك، اعلم أن هذا عمل تتكسب منه رزقك، وأنت تبيع وقتك وخبرتك مقابل المال، فهذا الوقت مورد مهم لا يجب إغفاله، فالعمل الذي يستغرق ساعة مقابل عشرة دولار لكنك تنجزه في عشر ساعات مقابل نفس الثمن قد جعل سعر ساعتك تنخفض من عشرة دولار إلى دولار واحد، وهكذا تكون قد خسرت تسع ساعات من عمرك كان من الممكن أن تكسب فيها تسعين دولار أخرى، أو تنفقها في شؤون حياتك خارج العمل.
وإني أخبرك هذا من موقف المتأذي من هذا الفعل، فإني أقع فيه بنفسي أثناء العمل على كل مشروع لسبب أو لآخر، لهذا فإني أستطيع تفصيل هذه المشاكل لك كما ستراها أثناء عملك الحر، من أجل أن تتجنب هذه الأخطاء قبل الوقوع فيها.
تحديد مواعيد العمل ومكانه
ذكرنا قبل قليل أن عليك اختيار موعد ثابت لنومك، وكذلك لعملك لا تتجاوزه، فلو قررت العمل لساعتين يوميًا أو أربع ساعات مثلًا، فثبِّت لها موعدًا لا يتغير، واجعل لها مكانًا ثابتًا كذلك لا يتغير.
يقول كالفن نيوبورت (Calvin Newport) في كتابه العمل العميق (Deep Work) تحت عنوان “القاعدة الأولى، اعمل بعمق” أنك يجب ألا تأخذ عملك معك إلى المنزل، فإن احتاج عملك ساعات إضافية فلا تنجزها في بيتك، بل ابق هذه الساعات في محل عملك، سواء كان مكتبًا خاصًا في المنزل أو ركنًا أو حتى مكتبًا خارج المنزل، ثم عد إلى بيتك محل الهدوء والسكن.
ويذكر في ذلك الشأن أمثلة لعلماء وكتاب خصصوا مثل ذلك لأنفسهم وانعكس بالإيجاب على جودة أعمالهم، بل بدأ كتابه بمثال عن كارل يونج (Carl Jung) مؤسس مدرسة علم النفس التحليلي، إذ اتخذ لنفسه بيتًا صغيرًا من طابقين كمكتب للعمل، ليس به كهرباء ولا يستطيع أحد الوصول إليه من الخارج إذ كان المفتاح معه، وذلك كي يتفرغ لتفصيل أسلوبه في النظر في علم النفس، وقد نتج عن ذلك ما بين أيدينا الآن من أعماله وما بني عليها.
الإجازات الأسبوعية والسنوية
إنني أكتب لك الآن بعد نحو نصف عام من العمل شبه المتواصل الذي تخللته إجازات قليلة هنا وهناك، فربما قضيت أسابيع بدون إجازة، ثم آخذ إجازة ثم أعود لمواصلة العمل أسابيع أخرى، وذلك بسبب حالة الحظر التي فُرضت في البلاد بسبب وباء كورونا كوفيد-19 وقتها، ثم إعادة الحركة والعمل مرة أخرى.
وقد اضطررت بسبب ذلك إلى البدء من تحت الصفر حرفيًا في تجارة لي كنت أغلقت فروعها مع الحظر، وقد وقعت فيما أحذرك منه هاهنا من سوء تنظيم النوم وإجهاد العمل تحت وطأة الاضطرار والضغط.
وإني أقول لك بثقة أن هذه الفترة بعد أن مرت وانقشعت سحابتها، كان يمكن تجنبها بحسن التخطيط والإدارة المنتظمة، والتخطيط المسبق لمثل هذه الحوادث والنوازل، من أجل تلافي فترات الإجهاد التي مرت بي أنا والعاملين معي.
وذلك أني أدرك وطأة الضغط الذي يسببه لك عمل يستنزف موارد بشرية ومادية يوميًا دون أن يدر ربحًا، وإن كان عملك الحر ها هنا ستكون موارده هو أنت شخصيًا، وعمرك، ومالك، لكن الضغط المستمر على نفسك لإنجاز أعمال ومهام سيقضي على كفاءة تفكيرك واتخاذك للقرار، وقد رأيت هذا بنفسي في عملي.
وإني أخص بالذكر هنا الأعمال التي تحتاج إلى صفاء ذهن من الأعمال العقلية والإبداعية مثل البرمجة والترجمة والتصميم وغير ذلك، فهي أعمال تحتاج إلى رياضة للعقل كي يصفو ويستريح من ضغط العمل، ثم حينئذ يفيض عليك بحلول للمشاكل التي لديك لم تكن تراها أثناء ضغط العمل.
وإن هذا الكتاب بين يديك خير مثال على هذا، فقد قضيت قرابة شهر لا أستطيع كتابة كلمة واحدة فيه أثناء تلك الفترة التي أذكر لك، ثم حدث أني سافرت في بعض شأني واستغرق السفر نحوًا من تسع ساعات بالقطار.
ولعلمي أني لن أستطيع فعل شيء في ذلك الوقت فقد تحرر ذهني قليلًا من التفكير في العمل، فلما كففت عن ملاحقة الحلول ذهب عقلي يطارد المشكلة التي كانت تؤرقني، وهي إنهاء هذا الكتاب، فنظرت في المقال الذي كنت أقف عنده فإذا بيانه قد انجلى لي مفصَّلًا، ففتحت حاسوبي وكتبته كاملًا دون توقف، وأنهيته في ساعتين، ولم أراجعه بعدها من إتقان ما كُتب وأرسلته للنشر مباشرة!
وقد ذكر كالفن نيوبورت نحوًا من هذا في كتابه العمل العميق تحت عنوان “قم بتغييرات كبيرة” أو كما بوبها هو “Make Grand Gestures”، إذ ذكر موقفًا لرجل أعمال اسمه بيتر شانكمَن Peter Shankman، أراد إنهاء كتاب قرُب موعد تسليمه، فانتبه إلى أنه يقضي أغلب وقته في رحلات طيران، ورأى أن هذا مكان ووقت مناسبين للتركيز والكتابة، فحجز تذكرة ذهاب وعودة في درجة رجال الأعمال من الولايات المتحدة إلى اليابان، وظل يكتب طيلة الرحلة ذهابًا وعودة، وقال أن الرحلة كلفته 4000 دولار، وكانت استثمارًا مجديًا جدًا.
وإني لا أقول لك قم واحجز تذكرة الآن في أول طائرة لتنجز عملك، بل يكفي أن تفهم المغزى من المثالين، أن العمل الذي تريد إنجازه بشدة ولا تجد له وقتًا ولا فراغًا من نفسك يحتاج إلى إفراغ ذلك الوقت ولا بد، فاستفرغ لنفسك وقتًا تستقطعه وتقطع عنك المشتتات الخارجية سواءً كانت تصفحًا على الويب أو محادثات نصية مع أصدقائك أو أخبارًا تتابعها أو رياضات تمارسها ونزهًا تخرج فيها وأولادٍ تلاعبها، ثم اصرف ساعة أو ساعتين لهذا العمل لا تصرف تفكيرك في شيء غيره، واعلم يقينًا أن هذا الوقت سيكون من أفضل ما خصصته لعمل.
أسلوب العمل على المهام
إن النفس ملولة بطبعها من البقاء على وتيرة واحدة، ويزيد هذا في الأعمال الإبداعية غير المتكررة، فالكتابة والبرمجة تختلفان عن الوظائف الدفاعية ووظائف خطوط إنتاج المصانع مثلًا التي تتطلب انضباطًا والتزامًا وروتينًا لا يكاد يتغير.
وإن بقاء النفس على عمل لأكثر من ساعة دون انقطاع ولو لخمس دقائق سيصرفها إلى شيء مختلف تجد فيه متعة وتغييرًا عن نمط العمل، ولو كان أن تلعب بقلم في يدك!
لهذا فإن علماء النفس يوصون بتقطيع أوقات العمل إلى حصص زمنية تفصلها أوقات راحة تترك فيها العمل وتنصرف إلى شيء آخر، ثم تعود إليه مرة أخرى. فقد ذكر مارتي لوبديل (Marty Lobdell) أستاذ علم النفس بجامعة بيرس (Pierce) في محاضرته الشهيرة “ذاكر أقل، ذاكر بذكاء” أن امرأة ساءت علاماتها في الجامعة فعزمت على المذاكرة في الفصل الدراسي التالي لوقت حددته كل يوم، ولم تحصل منها شيئًا وباءت محاولاتها بالفشل.
ذلك أنها كانت تجبر نفسها على البقاء مع الكتب هذا الوقت في كل يوم، فتمل نفسها ولا تذاكر، لكنها لا تترك مكتبها بسبب نذرها على نفسها. ولو أنها قسمت فترات مذاكرتها إلى نصف ساعة ثم خمس دقائق من الراحة لكان أفضل وخيرًا لها، وإن هذه طريقة مشهورة باسم بومودورو (Pomodoro)، ومثلها أسلوب اسمه 52-17، تقسم فيهما المهام إلى حصص زمنية تساوي متوسط الوقت اللازم لإنهاء مهمة واحدة أو عدة مهام، أو الوقت الذي تنجز فيه العمل دون أن تمل، ثم تأخذ بضع دقائق من الراحة قبل العودة إلى العمل مرة أخرى.
لكن اعلم أن مثل هذه التقنية ليست قانونًا وقد لا تناسبك، فانظر إلى طبيعة نفسك وطبيعة العمل الذي تعمل عليه واختر ما يصلحك، فقد جربتها وغيرها من الطرق ونجحت مرة وفشلت مرات! فمثلًا، قد لا تكفي خمس دقائق للراحة مثلًا، ولا خمس وعشرون دقيقة للعمل! فجرب ساعة للعمل وربع ساعة للراحة مثلًا، لهذا كان هنالك نظامًا آخر يدعى 52-17، إذ تخصص فيه 52 دقيقة للعمل ثم 17 دقيقة للاستراحة والتعرض للمشتات، وأيضًا هذه ليست بالقاعدة المسلم بها.
خلاصة ذلك أنه قد تحتاج إلى فترات أطول من الانقطاع التام للعمل لا يتخللها راحة ولا تعرض لأي مشتت أو منبه كي لا تفقد سيل أفكارك، وذلك ما فصله كالفن نيوبورت في كتابه وذكره هاينسون صاحب كتاب Rework كذلك في أسلوب عمله في ردوده على متابعيه في تويتر، أنهم يخصصون فترات قد تصل إلى أربع ساعات مثلًا لإنجاز مهمة بعينها، لا يقاطعهم فيها أحد، ويفصلون كل مشتت لهم عن تلك المهمة.
وقد أجرت مايكروسوفت تجربة هنا على العاملين لديها لتقيس أثر الإشعارات والهواتف الذكية على الإنتاج، فخرجت بأن دورة انتباه العامل لا تتجاوز أربعين ثانية فقط! بل قد تكون أقل أيضًا، ما بين إشعار من Slack إلى رسالة في فيس بوك إلى بريد إلكتروني ثم نظرة على الهاتف القابع بينه وبين لوحة المفاتيح!
ويذكر نيوبورت في الفصل الأول من كتاب العمل العميقأن صوفي ليروي -أستاذة التجارة في جامعة مينيسوتا- في ورقة بحثية نشرتها عام 2009 على تأثر العاملين بتلك المشتتات، فوجدت أن المرء يحتاج أحيانًا بعد تشتت بسيط عن عمله إلى نصف ساعة كي يعود إلى كامل تركيزه على ما كان بيده، وهذا الكلام لمن يجهدون أنفسهم بتعدد المهام ويظنون أنهم ينجزون أكثر بهذه الطريقة، وتلك كلها إحصاءات مقلقة جدًا من حيث كمية الأوقات المهدرة في العمل، والتي تعني قيمة أقل لكل ساعة، ووقتًا ضائعًا كان يمكن قضاؤه في عمل آخر أو مع عائلة مثلًا.
التسويف
يقول عبد الرحمن ذاكر الهاشمي، الطبيب المتخصص في طب النفس والمجالات المتعلقة بالعلاج النفسي والتربوي، في رد له على سائلة تسأل عن سبب التسويف الواقعة فيه، أنه يكون غرورًا وكِبرًا من صاحب الذكاء والنجابة، إذ يظن أنه قادر على الأمر إن شاء أن ينجزه وإن كان في آخر الوقت، فيوقعه ذلك في وهم الثقة بقدرة النفس على إتيان المطلوب وإن كان في آخر الوقت.
ويتابع قائلًا أن هذه المشكلة منتشرة من قديم، لكنها زادت في عصرنا هذا لكثرة الملهيات والمشتتات، فمن المنطق أن يكون التسويف الذي يُتعامل معه على أنه عرَض شبه مرَضي في دوائر العلاج النفسي، أكثر ظهورًا في هذا العصر عن غيره.
واعلم أن مجرد التفوق والتميز يكون سببًا في التسويف أحيانًا، خاصة عند وجود إنجاز للمرء مع عدم إدراكه لنقاط القوة والضعف في نفسه، فإن كان قادرًا على تنفيذ العمل في أول الوقت فماذا يفعل من بداية وقته حتى موعد التنفيذ ذاك؟ وعليه فيجب أن ينظر المرء في صدق ما يريده، وهل أدى الأمانة التي عليه أمام الله أم لا؟
فإن المرء يستخدم ذكاءه ونجابته تلك بغباء، مقابل العمل الدؤوب لمن يراهم أقل منه حظًا في الذكاء والفهم، وسيرى بنفسه تقدم أولئك الذين يراهم أقل منه في الدنيا والآخرة وهو قابع مكانه إن لم يكن يرجع القهقرى، وذلك لغياب فهمه لفقه اللحظة الذي يقتضي اغتنام الوقت الحاضر على هدًى من تخطيط سليم. فذلك الذكاء الذي يجعل المرء يؤخر إنجاز عمله لظنه أنه قادر عليه يوقعه في الكبِر وبطر الحق الذي يجب تنفيذه والقيام به.
وكذلك، يرى ستيفن كوتلر (Steven Kotler) مؤلف كتاب نهضة الرجل الخارق: فك تشفير الأسباب العلمية للأداء العالي للبشر (The Rise of Super man: Decoding the scienceof ultimate human performance) الذي يتحدث فيه عن الإنتاجية العالية أن تسويف المهام يكون إما بسبب كونها مملة جدًا، أو صعبة جدًا، وذلك في 95% من الحالات.
وإني جربت هذا وذاك من قبل، إذ مرت علي مشاريع ودراسات صعبة للغاية فكنت أُرجئ العمل عليها أو دراستها، وكلما نظرت فيها تذكرت صعوبتها فأتركها مرة أخرى، وهكذا. ومن ناحية أخرى، عملت كذلك في وظائف ومشاريع سهلة للغاية، فكنت أرجئ العمل عليها بسبب الملل من العمل عليها، أو أقول أني سأنظر فيها فيما بعد بما أنها سهلة.
والحل الذي رأيناه للمشاريع الصعبة هو تقسيم المهام إلى وحدات صغيرة جدًا يمكن قياسها وتنفيذها، وذلك تعلمته من ستيفن دونيير (Stephen Duneier) في كلمة ألقاها في TED قبل بضعة أعوام عن أسلوبه الذي تعلم به التحليق الأكروباتي بالطائرات واللغة الألمانية وحياكة الكروشيه والتفوق في دراسته الجامعية والثانوية وغير ذلك من الأمور التي بدت مستحيلة لمثله إذ لم يكن يستطيع التركيز على مهمة أكثر من عشر دقائق. فإن كان ما يريده هو قراءة كتاب كبير مثلًا، فإنه يقسمه إلى مهام صغيرة جدًا يمكن تنفيذها ويداوم عليها، فيبدأ بقراءة كلمة ثم سطر ثم فقرة كاملة وهكذا … .
وإن هذا يُدخله في نمط يطلق عليه كوتلر “حالة التدفق” التي يكون المرء فيها مستصعبًا لمهمة تبدو كبيرة في البداية ولا يمكن تنفيذها، أو تبدو سهلة إلى حد الملل، فما إن يبدأ فيها بعد تقسيمها إلى مهام صغيرة حتى تتابع حلقاتها في التنفيذ بسلاسة ويندمج المرء في تنفيذها حتى ينهيها أو ينهي الوقت الذي يخصصه لها.
ومن ناحية أخرى، فإن الحل الذي نراه للمشاريع السهلة أن تغير فيها بما يدعوك إلى إنهائها، فإن كنت تنهي مثل ذلك العمل السهل في يوم فضع له بضع ساعات فقط، أو زد عليه مهمة أخرى معه كي يرتفع سقف المطلوب فيدعوك إلى إنهائه، لكن لا تبالغ في تقليل الوقت المخصص للعمل، فإن مراجعة كتاب من سبع صفحة لا تزال مراجعة لسبع مئة صفحة كاملة!
أو تضع لها نقاطًا مرحلية كما فصلنا في المقال الرابع من هذه السلسلة، بحيث تبلغ العميل بانتهاء كل مرحلة، فيكون ذلك هو الدافع لإنهائها – أي الوقت المخصص للمهمة وليس المهمة نفسها-، أو تضعها شرطًا لراحة أو إجازة تريدها، فلا تستحق الإجازة إلا بعد إنهائها في وقتها. وهكذا، خذ من ذلك ما يصلحك، فإن بعضه قد يكون مناسبًا لك وغير مناسب لغيرك، وذلك وفقًا لطبيعة العمل وطبيعة شخصيتك وظروف عملك التي تناسبك.