◄لا شيء يؤرق فعلاً كما تؤرق المشاكل المالية. فلا شيء يُشعِر بالحسرة أكثر من أن يذهب الراتب الشهري في مهب الريح، ولا يشعر بالحاجة والعوز مثل أن لا نجد في جيبنا المال لتغطية احتياجات أساسية! ولا شيء يستهلك الأعصاب كما تستهلكه الديون وضغوطها.
إنّ المشاكل المادّية تجعل المرء قلقاً غير مرتاح البال. ومعظم الناس يظنّون أنّ مصدر هذه المشاكل هو تدني الدخل وقلة المال، إلّا أنّ السبب الحقيقي لها هو أمر آخر يطلق عليه سوء إدارة المال والمصروف.
إنّ ما يسمى بـ(إدارة المصروف أو السيطرة على المصروف) أمر يمكن تعلّمه، وهو غاية في الأهمّية. إنّه يمكنّك من الحصول على طلباتك واحتياجاتك الحقيقية بناءً على البرنامج الذي تضعه أنت، لا بناءً على ظروف الحياة المادّية المتقلّبة. وها هي خطوات وآليات إدارة مصاريفك الشخصية على أساس حجم دخلك الشهري والتي ستجنّبك الوقوع في أزمات أو مشاكل مالية.
نحو إعداد الميزانية الشخصية
إنّ الهدف الرئيسي للميزانية هو أن تنفق أقل ممّا تكسبه، وأن تعرف أين تصرف أموالك، وأن تحصل على الفوائد الأُخرى، وهي توفير المال وتسديد الديون.
ولكي تبدأ بإعداد ميزانية وتقوم بالالتزام والعمل بها ستحتاج إلى الجديّة والانضباط. ويجب أن تدرك أنّ الأمر سيستغرق بعض الوقت حتى تستطيع إنشاء ميزانية مناسبة وناجحة لك.
سجّل مصروفاتك كلّها
إنّ الخطوة الأولى لإعداد الميزانية الشهرية هي تسجيل كلّ ما يصرف بكامل الدقّة. والتسجيل في هذه المرحلة لا يتضمن جهداً أو خطّة للتوفير. كلّ ما عليك هنا أن تضع ورقة في مكان يسهل الوصول إليه وأن تدوِّن، وتطلب من كلّ مَن يقوم بالدفع نيابة عنك أن يدوِّن كلّ المبالغ التي تدفع (كبيرها وصغيرها). وعليك أن تستمر بالتدوين لمدّة لا تقل عن ثلاثة أشهر. وفي نهاية كلّ شهر احسب مجموع المصروفات، ولا شكّ في أنّ مجموع المصروفات في هذه المرحلة سيزيد عن واردك الشهري! فأنت لم تبدأ بخطّة التوفير بعد.
صنّف بنود المصروفات
وهنا عليك أن تعود لأوراقك التي دوَّنت عليها المصاريف في الأشهر الماضية وأن تفرز المصروفات وتصنّفها. والتصنيفات ستعود إلى طبيعة حياتك وحجم أُسرتك، ولا يمكن أن تحصر التصنيفات هنا، ولكن يمكن أن تضرب عليها أمثلة كالتالي:
– مصروفات طعام
– مصروفات أقساط وفواتير
– مصروفات مواصلات
– مصروفات تعليم
– مصروفات تسلية وترفيه
– مصروفات طبية ثابتة
– مصروفات طارئة
اعد ترتيب أولوياتك في الميزانية
إنّ من أهم الخطوات أن تقوم بتحديد أولوياتك وتفرزها على أساس أهمّيتها، وبمعنى آخر أن تجيب على التالي:
– ما الذي أحتاجه فعلاً ولا أستطيع العيش بدونه؟ (الحاجيات)
– ما الذي أريده وأتمناه؟ (رفاهيات)
– ما الذي أحتاجه ولكنّي أستطيع العيش بدونه وأريده وهو ليس برفاهية؟ (ضرورات)
ومن البديهي أنّك ولأوّل وهلة عند الفرز، ستكون مصروفات التعليم والطعام والمصروفات الطبية – على سبيل المثال – من الضرورات، أمّا مصروفات التسلية والترفيه من الرفاهيات. حسناً، قد يكون هذا صحيحاً لحدٍ ما ولكن ليس بشكل أكيد! عليك هنا أن تعود للميزانية المسجّلة السابقة وأن تسأل نفسك عن كلِّ مبلغ دُفِع، وليس عن كلّ بند بشكل عام! فعلى سبيل المثال لا يصح أن تعتبر المصروفات الطبية كلّها من الحاجيات إذا كانت زوجتك تشتري كريمات تجميل مثلا!
والآن وبعد أن فرزت بين ما يعتبر من الاحتياجات وما يعتبر من الرفاهيات وما يعتبر من الضرورات، احسب مجموع المصروف الشهري فيما يندرج تحت بندي الاحتياجات والضرورات فقط، دون الرفاهيات. ولابدّ أنّ المجموع سيتساوى على أقل تقدير، ألا تظن ذلك؟
خفّض النفقات
وستدخل الآن مرحلة جديدة فيما يخص الحاجيات والضرورات، ولكن لا تخف لن نحذف شيئاً منها، ولكن المطلوب منك أن تعيد النظر فيها وتتأكد إن كانت تصرف على الشكل الصحيح. إنّ عليك أن تسأل نفسك إن كان يمكنك أن تقلّل تكاليف الاحتياجات والضرورات؟ وستجد أنّ كثيراً من التكاليف المدفوعة فيما يخص الحاجات والضرورات يمكن أن تخفّض وتُختصر.
إنّك – مثلاً – تدفع مبلغاً معيناً للمواصلات في كلّ شهر، ألا تفكر في ركوب المواصلات العامّة، وإذا كنت أصلاً تركب المواصلات العامّة لم لا تجرّب أن تذهب وتعود مشياً على الأقدام! ولا تحدثك نفسك بأنّه لا وقت لديك، لأنّك أثناء المشي ستستطيع القيام بالكثير من الأشياء، أوّلها التفكير والتأمّل. وتذكر أنّك إن أصبحت تمشي ساعتين يومياً ستحقّق لجسدك وقلبك صحّة أفضل، وبالتالي ستوفِّر يوماً ما زيارة طبيب أو ربّما ستوفِّر قيمة التسجيل في نادي رياضي!
إنّ مثال تخفيض النفقات في المواصلات يمكن تطبيقه في أي مجال تصرف فيه كثيراً، وستتمكّن بقليل من التفكير وإعادة النظر أن تخفّض التكاليف إلى نسبة كبيرة فعلاً. إنّك ما إن تبحث، ستجد أنّ هناك جزءاً كبيراً من ميزانيتك الشهرية تقوم بإنفاقه في الحاجات أو الضرورات ولكن يمكنك أن ترشد استهلاكك فيه وتتحدّى نفسك في ذلك.
ضع خطّة جديدة للمصروف والتزم بها
بعد أنّ تبيّن لك – بعد ترتيب الأولويات وتخفيض النفقات – مقدار التكاليف الذي يحتاجه كلّ بند من الحاجيات والضرورات، احسب مجموعهما في نهاية كلّ شهر، ثمّ اطرحه من مجموع دخلك الشهري، ولابدّ من أن يكون هناك متبقٍ من عملية الطرح. إنّ المتبقي سيكون هو الهامش الذي ستستطيع استعماله في مجال الرفاهيات، ومهما كان المبلغ صغيراً فلابدّ أنّك ستسعد به، لأنّه موجود بين يديك، ليس ديْناً، ستستطيع أن تصرفه في الترفيه كما شئت، دون أن يعاودك شعور بالندم بعد صرفه.
ولكنّك وإن أردت أن تسير على أرض ثابتة، عليك أن لا تصرف المبلغ المتبقي كاملاً على الرفاهيات، لأنّ الصحيح هو أن تسمح لنفسك بصرف نسبة منه فقط، ثلثه أو نصفه أو ثلثيه بأكثر الأحوال، وذلك من أجل أن تبقي مساحة للطوارئ.
إنّك – وبعد هذه الخطوة – أصبحت جاهزاً لتبدأ بتنفيذ خطّة الإدارة الجديدة، وذلك عن طريق تخصيص ظرف لكلّ بند، يوضع فيه مبلغه المخصص له في بداية كلّ شهر، ويصرف منه خلال الشهر، وتُكتب تفاصيل المصروف على ظهره.
ابدأ بالإدخار
إنّ من أهم الأهداف التي يجب أن تضعها أمامك دائماً هو إدخار المال. وهي الخطوة التي ستستطيع تطبيقها بمجرد ما تلتزم بمصاريف الحاجيات والضرورات والشيء المحدود من الرفاهيات. إنّ المدّخر من أموالك سيساعدك في الأزمات، وأيضاً في مصاريف الأبناء المستقبلية.
قيّم أداءك باستمرار
في نهاية كلّ شهر، وبعد كلّ موسم، اعد حساباتك وتأكد من ترتيب أولوياتك، واعد تصنيفات المصروف. لا تحبط ولا تنزعج إن كان المصروف لا يزال غير منضبطاً، كن مرناً واعد الخطوات السابقة الذكر بنظرة جديدة.
كيف تجعل أبناءك يقتنعون بأسلوب الإدارة الجديد للمصروف؟
– اعلم أبناءك بخطّتك الجديدة إن كانوا يستطيعون أن يتفهّموا ذلك.
– درّب أبناءك على مبدأ إدارة المصروف حسب الدخل عن طريق تدريجهم في أخذ مصروفهم. فإن لم يكن لهم مصروف شخصي فاجعل لهم مبلغاً ثابتاً دورياً. وإذا كنت تعطيهم مصروفاً يومياً فاجعل مصروفهم أسبوعياً. وإن كنت تعطيهم مصروفاً أسبوعياً فاجعل مصروفهم شهرياً. إنّ هذه المساحة الشخصية التي يحصل عليها الشخص مهما كان صغيراً سيجعله يتفهّم فوائد إدارة المصروف، ويجعله يحقّق فائدة شخصية من التوفير.
– شاركهم بالمسؤوليات إن كانوا راشدين، وذلك عن طريق إعطائهم مسؤوليات محدَّدة. سلّم ابنتك الكبرى مثلاً بند الطعام واعطها الظرف في بداية الشهر، واخبرها بأنّها ستكون المسؤولة هذا الشهر عن هذا الجانب. فإن استطاعت أن تجلب كلّ حاجيات الطعام ضمن المبلغ المحدَّد فهذا ممتاز، وإن استطاعت أن توفِّر دونما تقصير في الحاجيات فهذا رائع فعلاً ويستحق المكافأة والتشجيع.
إنّك – وبعد تطبيق مبدأ إدارة المصروف – مع أفراد أُسرتك، ستكتشفون جميعاً متعة الإدارة، وستستمعون بأن تقولوا «لا» لإغراءات التسوّق، لأنّكم تعرفون ما تفعلون وما تقولون.
إنّكم بالخطوات السابقة ستكونون قد حرّرتم أنفُسكم من سوء إدارة المصروف أو ما سمّاه أهلنا الأوائل بـ«قلة الحيلة». وهنا وعندما يُذكر أهلنا الأوائل يتبادر إلى ذهننا أوّل ما يتبادر فيما يرتبط بهذا الموضوع، فكرة البركة التي كانت تحوفهم وتحيط برزقهم..
فكيف نعيد البركة إلى بيوتنا
إذا نظرنا إلى تفاصيل حياتنا اليوم سنجدها قد افتقدت كثيراً من الجزئيات التي كانت سبباً للبركة المتوافرة قديماً والتي كانت تجعل رغيف الخبز كافياً لعدد ليس قليلاً من أفراد عائلتنا الأولى. إنّ علينا – حتى نعيد البركة – أن نتذكّر ما كان أهلنا يقومون به. لقد كانوا يؤدِّون حقوق الله وحقوق العباد كاملة، وكانوا لا يقبلون المال الحرام ولا يتهاونون بقرش فيه شكّ، وكانوا يخرجون مبكّرين لطلب رزقهم، وكانوا أخيراً يجتمعون على الطعام ويسمِّون باسم الله في كلّ نشاطاتهم. إنّهم استطاعوا الحصول على البركة التي لا تتحقّق بكثرة المال ولا بزيادة ساعات العمل. إنّها سرّ الرزق المبارك الذي يهبه الإله للبارين من عباده.
وبعد تحقّق البركة في رزقنا، وعن طريق إدارة حاسمة لمصروفنا حسب مدخولنا وحسب مبادئ أهمّها أنّ لا نستسلم لطلباتنا الملحّة غير المدروسة، وأن لا نقبل أن نشارك بماراثون الاستهلاك، وأن لا نكون تلاميذ مخلصين لأساتذة الإعلانات التجارية والتي تظل تدرّس علينا درس الاستهلاك والاستهلاك ثمّ الاستهلاك، إنّنا وبعد تمثّل هذه المبادئ سنحقّق نجاحاً في إدارة مصروفنا حسب مدخولنا الشهري، وسننظر للأيّام الماضية التي كنّا نستهلك فيها بدون تخطيط، وكأنّها أيّام جاهلية لن نرغب أن نعود إليها أبداً.►