الدخول إلى عالم العمل الحر يعني الانتقال من نمط الدخل المنتظم الثابت المتدفق عن الوظائف التقليدية، إلى الدخل المستقل الذي يتطلب مهارات في الإدارة، إذ تطرح وتيرة التدفقات المالية في هذه الأعمال تحديات متعددة، أبرزها وجود فترات ينخفض فيها الطلب والحاجة إلى توفير موارد كافية للنمو، والوصول إلى عملاء جديين وبحجم كاف لتوفير مدخول يغطي الاحتياجات الأساسية ويسمح بالتوجه نحو الادخار. نعرض في هذا المقال بعض النصائح المتعلقة بهذه التحديات بعد تقديم مبسط لكل تحدّ وكيفية التغلب عليها.
إدارة فترات انخفاض الطلب
تفرض طبيعة العمل الحر تذبذب الدخل، فقد تمر على العامل المستقل فترات ركود ينخفض فيها الطلب على خدماته، وينعكس ذلك مباشرةً على الدخل، إذ قد تتعود على حجم معين من الأموال الداخلة شهريًا إلى حسابك، ليتغير الأمر فجأةً ودون مقدمات؛ وهو ما يضعك في وضعية حيرة بسبب ارتفاع سقف توقعاتك المبنية أساسًا على الدخل الذي تعودت عليه أو الذي لاحظته خلال فترات الذروة. في الواقع، يشكّل هذا الأمر مصدر قلق لأغلب المستقلين، فحسب إحصائيات موقع TeamStage لسنة 2022، فإن 47% من رواد العمل الحر يعدّون عدم امتلاك دخل قابل للتوقع مصدر قلقهم الأول، وهي أعلى نسبة بين مصادر القلق الأخرى التي شملها المسح والمتمثلة في التخطيط للتقاعد وتوضيح حدود العمل وغياب الأمان الوظيفي.
تتطلب إدارة فترات غياب أو انخفاض الطلب على الخدمات قبل كل شيء، وما ينتج عنها من تراجع للدخل، أن تكون لديك صورة شاملة عن احتياجاتك المالية الدنيا للشهر الواحد، ويجب أن تكون هذه الصورة واقعيةً ودقيقةً قدر الإمكان، لكن لماذا؟
إن المشكل الحقيقي لعدم انتظام الدخل هو التخوف من عدم القدرة على تغطية الاحتياجات الأساسية، وعندما لا تكون لديك فكرة واقعية عن حجم هذه الاحتياجات، فإن التصورات التي تمتلكها حول دخلك مقابل احتياجاتك ستكون إما مبالغًا في تقديرها أو العكس، وهنا تكون عرضة لاتخاذ قرارات بناءً على تصور خاطئ، وبالتالي سوء إدارة الموقف، لذلك فإن أول ما يُوصى به هو كتابة الاحتياجات والمصاريف الشهرية الأساسية وإحصائها وتقييمها.
بإمكانك الجلوس والتفكير في كل أساسيات حياتك واحتياجاتك التي لا يمكنك الاستغناء عنها ضمن نمط الحياة المستهدف وإدراجها في هذه القائمة، واتخاذ المبلغ المستخرج من هذا التحليل كحد أدنى للدخل الشهري، وبهذا فإنك تخلق هدفًا ماليًا واقعيًا أدنى يمكنك من خلاله تقدير ما إذا كانت فترة انخفاض الطلب تؤثر فعليًا على توازنك المالي.
من جهة أخرى، فإن إدارة فترات انخفاض الدخل في مجال العمل الحر يعتمد على قدرتك على الادخار. ورغم الطبيعة غير المستقرة للدخل والتي تحول دون قابلية التنبؤ به، فإنك تستطيع على المدى المتوسط والطويل بناء تصوّر سنوي مثلا حول سلوك هذا الدخل، إذ يمكن التنبؤ بفترات الذروة أو التعرّف على النمط الذي تنخفض به العروض تبعًا لأسباب أو مواسم معينة.
وبناءً على هذا التصوّر، يُنصح بالإبقاء على مستويات الإنفاق ثابتة عبر الفترات التي تعرف ازدهارًا في العمل، وتحويل الفائض إلى الادخار. تسمح هذه الاستراتيجية بتوزيع المداخيل بشكل أكثر تجانسًا على مدى السنة والسيطرة على مستوى الإنفاق خلال فترات ارتفاع الدخل، أي أنك ستتمكن من التحكم في الإنفاق وفي ذات الوقت توجيه الدخل إلى الادخار الحكيم.
من المهم أيضًا في سياق إدارة فترات انخفاض الطلب أن يكون لدى العامل الحر مصدر ثانوي للدخل، كأن تكون له وظيفة بدوام جزئي، أو أعمال حرة أخرى غير ذات أولوية يمكن القيام بها في فترات متقطعة، أو استثمار أموال مدخرة في مشاريع تديرها أطراف أخرى، إذ تتيح هذه الخيارات درجةً من الأمان الوظيفي خلال فترات الدخل الشحيح.
توفير الموارد الكافية لتوسيع العمل
بدأت بممارسة عملك الحر ودخلت المجال من بابه الواسع وأصبح لديك عملاء دائمون ومنتظمون، ما يوفر دخلًا جيّدًا وكل مزايا المرونة والاستقلالية التي ترغب فيها. يوفر لك الدخل من العمل الحر ما يكفي لتغطية احتياجاتك الأساسية وتشعر بالرضا عن نمط الحياة عند هذا المستوى، ماذا الآن؟
يتغير عالمنا اليوم بسرعة كبيرة، وقد تتغير معه وتيرة العمل واحتياجات السوق ووضعيتك بطبيعة الحال، لهذا يُعَد النمو وتوسيع العمل أحد الأهداف المرغوبة في مجال العمل الحر، وقد ترغب في النمو من خلال توسيع نطاق عملك أو تكوين فريق عمل تشرف عليه لتنفيذ مشاريع أكبر، كما قد تتوجه نحو استثمار مداخيل العمل الحر في مجال مختلف جذريًا، كأن تفتح مشروعًا خاصًا وتغير وظيفتك. وفي كل الأحوال، فإن التغيير والنمو يجب أن يكون جزءًا من نظرتك إلى وضعيتك كمستقل.
يتطلب دمج نظرة توسعية للعمل الحر توفير موارد كافية لتمويل هذا النمو، ونقترح هنا النقاط التالية للوصول إلى هذه الموارد وحسن استعمالها لتحقيق هدف توسيع العمل:
- مراجعة سياسة التسعير المتبناة، والهدف عند التسعير هو الحصول على أقصى مبلغ ممكن دون خسارة العملاء المحتملين، وهنا ينبغي دراسة السوق وعروض المنافسين وتسعيراتهم وما يتلقونه لقاء العمل الحر المماثل لعملك، كما ينبغي مراعاة عوامل داخلية مثل خبرتك في المجال وحجم المنافسة المحيطة بك ومدة العمل على المشروع ودرجة تعقيده، إذ يساهم فهم كل هذه العوامل في تحقيق هدف التسعير الأكثر ملاءمةً.
- الاستثمار في تطوير الذات والمهارات الشخصية باستمرار، والهدف هنا هو مواكبة المتطلبات الحديثة لمجال النشاط، وزيادة الدخل وخلق درجة من الاستقرار والأمان في عملك الحر، ويجب أن تكون المهارات المستهدفة متماشيةً واحتياجات السوق، فقد تلاحظ مثلا طلبًا متزايدًا على إضافة معينة في عروض الخدمات التي تتصفحها.
هنا سيكون من الذكاء أن تطور هذه المهارة وتكسب بالتالي ميزة تنافسية تعزز مداخيلك، إذ أنه كلما زادت مهاراتك ارتفعت احتمالية حصولك على مشاريع ذات مردودية مرتفعة. يمكن تطوير المهارات من خلال الممارسة اليومية والتركيز على نقاط الضعف وقراءة الكتب ومدونات المتخصصين، كما يمكن اللجوء إلى مصادر خارجية مثل ورشات العمل والمؤتمرات العلمية المتخصصة والندوات في مجال نشاطك، والدخول في دورات تدريبية وتربصات.
- بناء شبكة من العلاقات مع رواد العمل الحر في ذات مجالك أو في مجالات مقاربة، يساهم هذا الأمر في تبادل الخبرات والعمل على مشاريع مشتركة، كما يبقيك على دراية بآخر التطورات في المجال ويسمح بمشاركة التحديات الخاصة التي تواجهها مع أطراف قادرة على استيعابها. مجموعات العمل الحر على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات المتخصصة توفير بيئة ملائمة لبناء مثل هذه العلاقات، ويسمح تطوير شبكة العلاقات بخلق مصادر فريدة لتطوير العمل ولما لا توفير موارد أكثر.
الحصول على حجم عمل كافي لتغطية الاحتياجات الأساسية والوصول إلى الادخار
يُعَدّ تسويق الذات أحد التحديات الهامة للعامل الحر، والجانب الأصعب للتسويق هو بناء علامة شخصية وإثبات تفردك وقدرتك على إنجاز المشروع بالشكل الذي يريده العميل وفي الوقت الملائم. يتوقف الحصول على الحجم الكافي للعمل لتغطية الاحتياجات الأساسية في مجال العمل الحر والوصول إلى الادخار على قدرتك على تسويق نفسك، لهذا فإن النصائح التي سنقدمها في هذا السياق ستدور حول هذا المحور أساسا:
- اختيار مجال نشاط محدد ومتخصص ما أمكن، فإذا كنت تنشط في مجال التصميم مثلًا، فقد تتخصص في تصميم الشعارات أو واجهات مواقع الانترنت، وهو ما يتيح لك عروض عمل أكثر تخصصًا ويسمح لك بأن تصبح خبيرًا في هذا المجال المتخصص. والخبير في مجال ما يمكنه أن يرفع من سعر خدماته مقارنةً بالمنافسين ذوي المهارات المتنوعة، لذا عليك التفكير من وجهة نظر العميل أحيانًا والتساؤل: إذا كنت أنا العميل طالب هذه الخدمة، فهل كنت سأفضل إيكالها لمحترف متخصص في هذه الجزئية بالذات أم إلى محترف في مجالات متعددة؟ والجواب سيكون غالبا في مصلحة المتخصص الذي يمتلك على الأرجح مهارات أعلى وأدق.
- بناء معرض أعمال مبتكر ومميز يتيح التعرّف على أعمالك وشخصيتك كعامل حر، ويُعَدّ بناء معرض الأعمال استثمارًا طويل المدى، يتم بناؤه على مدى فترة نشاطك، وينبغي فيه مراعاة جانب الصدق والدقة، فإذا ساهمت في إنجاز مشروع معين، فلا ينبغي أن تنسب إلى نفسك إلا الجزء من العمل الذي قمت به فعليًا، كما يجب أن يتم التفصيل في بعض الأعمال المعروضة في معرض الأعمال بحيث تقدم للعميل المحتمل مختلف الخطوات التي مر بها العمل وصورة مسبقة عن النتائج التي يتوقعها، ويُوصى بأن يتضمن معرض الأعمال مجال خبرتك وعينات عن الأعمال المنجزة في شكل صور أو روابط، وعينات من التعليقات التي تحصلت عليها من الزبائن السابقين بالإضافة إلى كيفية التواصل معك.
- بعد بناء معرض الأعمال، بإمكانك البدء بالترويج لنفسك عبر مختلف القنوات ووسائل التواصل الاجتماعي، ومن المهم هنا بناء شخصية ذات مصداقية على منصة النشاط أو أي وسيلة أخرى تصل عبرها إلى العملاء، فبالإضافة إلى الالتزام بعرض أعمالك الحقيقية، لا تنسب إلى نفسك مهارات لست متمكنا منها، وهنا يجب أن تهتم باحترام مواعيد التسليم والتعامل المرن مع العملاء والوفاء بالالتزامات المختلفة، ومن الأعمال التي تساهم في بناء مصداقية أن تكون لك أنشطة ترويجية ذات طبيعة تعليمية داخل وسطك الاجتماعي، كأن تقدم نصائحًا كضيف على قنوات اليوتيوب المتخصصة لتعليم العمل الحر أو أن تشارك بعضًا من خبرة في مدونات على مواقع التواصل.
- لا تتردد في التقرّب من العملاء المحتملين من خلال إنشاء حسابات على مواقع العمل الحر الشهيرة وعرض خدماتك عبر حساباتك على مواقع التواصل الاجتماعي، كما ينبغي التركيز على العملاء المنتظمين على المدى الطويل وبناء علاقة عمل مستدامة. وعند استهدافك لمؤسسة معينة، بإمكانك القيام ببحث سريع حولها لفهم طبيعة احتياجاتها وتقديم عرض ملائم لذلك، ولا تنسَ أن الوقت المستثمر لاختيار عملاء ملائمين لنمط عملك سيوفر لك جهدًا لاحقًا عند مرحلة تنفيذ المشروع وتسليمه.