عندما تمارس العمل الحر فأنت تعلم منذ البداية بأن عملاءك قد يتوقفون في أي لحظة عن الطلب على خدماتك، وهو ما يترتب عنه توقف في الدخل، وذلك سواءً لظروف خاصة بهم، أو لأسباب تتعلق بمجال النشاط على العموم. وقد يكون هذا التوقف مؤقتًا أو نهائيًا، كما قد يأتي تدريجيًا أو دفعةً واحدة، لذلك فإن العمل الحر يتميز بحالة من عدم التأكد فيما يخص التدفقات النقدية المستقبلية، بالإضافة إلى وضعية عدم انتظام الطلبات، فقد تحقق هذا الشهر دخلًا ممتازًا بمقاييس أهدافك المسطرة، لتنخفض الطلبات على خدماتك في الشهر الموالي مرة واحدة، وتجد نفسك بالكاد قادرًا على تغطية احتياجاتك الأساسية، فما العمل؟
ينصح الخبراء الماليون بمتابعة صارمة للدخل والمصاريف والادخار على المدى الطويل، بالإضافة إلى تخصيص صندوق للمصاريف الطارئة، ويستطيع أي عامل حر أن ينمي ثقافته المالية بما يسمح له بتجاوز مرحلة التصرف العشوائي أمام تباين دخل العمل الحر واتخاذ قرارات مالية حكيمة.
ضمن هذا السياق، سنقدم في هذا المقال بعض النصائح التي تساعدك على التعامل مع تأثير تباين مداخيل العمل الحر على وضعيتك المالية كمستقل.
الاعتماد على الاحتياجات في تحديد المصاريف بدل الدخل
قبل متابعة الدخل، ينبغي متابعة المصاريف لأن أي عملية ادخار تعتمد على تخفيضها، وهنا نحن لسنا بصدد الحديث عن النفقات الثابتة مثل الإيجار أو تأمين السيارة أو فاتورة الكهرباء وغيرها من المصاريف التي تغطي الاحتياجات الأساسية للعيش، بل نركز على المصاريف الأكثر مرونةً، والتي يمكن تقليصها عند الحاجة.
إن المدخل المتبع في الإنفاق لدى أغلب الأشخاص عادةً ما يتوقف على مزيج من الاحتياجات والرغبات والشعور العام حول الوضعية الحالية للدخل، إذ تزيد المصاريف مع زيادة الدخل، وتتراجع بتراجعه، وهو مدخل غير حكي،م إذ ينبغي الاعتماد بالدرجة الأولى على الاحتياجات وترتيب أولويات المصاريف، ومن النقاط التي نركز عليها في هذا الخصوص ما يلي:
- ابدأ بالاحتياجات الأساسية الدنيا للعمل في بداية مسيرتك المهنية، ولا تحاول اقتناء أحدث الأجهزة الالكترونية ومتطلبات المكتب المثالي منذ البداية، بل كن صبورًا واستثمر في هذه الأمور على المدى البعيد. ابتعد عن العلامات التجارية الفاخرة وركز على الحد الأدنى للبدء في العمل.
- عند نهاية الشهر، وفي حالة وجدت أن أي أموال تبقت من مخصصات المصاريف لذلك الشهر، وجهها لأي احتياجات حالية ضرورية بدل التعامل معها كأموال إضافية وتوجيهها نحو أوجه إنفاق كمالية.
- قدّر مصاريفك الشهرية المتوقعة مسبقًا، وقارن الدخل الشهري المتراكم بها، وعند بلوغ المداخيل لمستوى المصاريف المتوقع، ابدأ التفكير في الادخار على المدى القصير والطويل، والتخطيط الجيد قبل اتخاذ أي قرارات إنفاق، وابتعد عن قرارات الشراء الاندفاعي.
- قبل القيام بأي عملية شراء خارجة عن مصاريفك الثابتة الاعتيادية اسأل نفسك: لماذا أقوم بعملية الشراء هذه؟ هل الغرض أو الخدمة محل الشراء يلبي حاجةً لدي أم رغبةً ما؟ إذ يجب التفريق الجيّد بين الحاجات والرغبات ضمن هذا السياق. وقبل أن تشتري هاتفًا جديدًا مثلًا أو تحجز رحلةً لبضعة أيام في مكان مريح، اسأل نفسك إذا كنت قد تعرضت مؤخرًا لجملة من الصور الإعلانية حول هذا الموضوع بالذات دون أن تدرك تأثيرها عليك، وحاول ألا تبني قراراتك الشرائية على الرغبات المماثلة، بل أن تركز على احتياجاتك وتلبيتها، خاصةً في ظل حالة عدم استقرار الدخل.
المتابعة الدقيقة للمداخيل على مدى فترات زمنية طويلة
تتدفق الأموال ضمن نموذج العمل الحر من عدة مصادر بسبب اختلاف الزبائن وتباين توقيت الصفقات وتنظيم المشاريع واتفاقات الدفع، ومن السهل في ظل هذه الظروف أن تظهر حالة من الفوضى وعدم التأكد فيما يخص القيمة الحقيقية لهذا الدخل، إذ نجد أن العديد من رواد العمل الحر لا يستطيعون إعطاءك مبلغًا دقيقًا للمتوسط الشهري لدخلهم إلا تقديريًا، كما لا يمكنهم تقييم دخلهم السنوي ولو تقريبيًا.
تؤدي حالة عدم التأكد هذه إلى مواجهة صعوبات في التخطيط لفترات تراجع الدخل، وإلى الميل إلى التبذير خلال فترات الذروة، لذلك يُوصى بإنشاء جدول دقيق لتدفقات الأموال الناتجة عن العمل الحر ومصادرها، مع تسجيل الفارق الزمني بين تاريخ تقديم الخدمة وتاريخ قبض الأموال، وهو ما يتيح على المدى الطويل رسم صورة شاملة للدخل السنوي، فقد يتضح لك من خلال هذه الصورة أن للمشاريع طبيعة موسمية، أو أن بعض العملاء يزداد طلبهم على خدمات محددة خلال فترات معينة. وفي كل الأحوال، يسمح تسجيل التدفقات النقدية بتحقيق درجة معقولة من الاستقرار وقابلية التنبؤ، إذ يكون العامل الحر على دراية بوضعيته المالية الحقيقية خلال أي يوم من السنة، وهو ما يسمح باتخاذ قرارات أسلم.
الادخار على المدى الطويل
يٌعَد الادخار أداةً أساسيةً للتعامل مع تباين الدخل على مدى فترات النشاط خلال السنة، ويُتوقع من العامل الحر أن يمارس الادخار منذ بدء التفكير في الدخول إلى المجال، إذ يوصي الخبراء بإدخال على الأقل ما يغطي نفقات ثلاثة أشهر قبل التفرغ للعمل الحر، وذلك تفاديًا لتداعيات تباين الدخل. وعندما تبدأ مداخيل العمل بالاستقرار، ينبغي البدء بإنشاء حسابات ادخارية على المدى القصير والطويل.
تغطي الادخارات على المدى الطويل الاحتياجات الطارئة خلال فترات انخفاض الدخل، إذا افترضنا مثلًا أنك تمكنت من ادخار مبلغ يغطّي مصاريف ثلاثة أشهر في حساب الادخار طويل المدى، فهذا يمنحك راحةً واستقرارًا ماليين لذات المدة خلال فترات الركود، وبالتالي تتجنب المنعرجات الحرجة في مشوارك المهني مثل عامل حر.
والسؤال المطروح هنا هو: كيف يمكنك تعديل نمط حياتك الحالي بحيث تخفض المصاريف وتبدأ بالادخار؟
في الحقيقة، تتطلب الإجابة على هذا السؤال بدايةً تغيير النمط الاستهلاكي عمومًا، وقبول تقديم تضحيات مؤقتة من أجل منافع مستقبلية أكثر ديمومة، ويشمل نمط الحياة الذي ينبغي عليك تقبله إذا كنت تواجه صعوبات في الادخار مراجعة الطريقة التي تؤدي بها بأنشطتك اليومية والشهرية.
على سبيل المثال، يُنصح بتعلم الطبخ وتحضير الوجبات منزليًا بدل طلب الطعام الجاهز. مارِس الرياضة داخل المنزل أو في الهواء الطلق بالأماكن العامة بدل دفع اشتراكات النادي الرياضي، وألغِ الاشتراكات في القنوات التلفزيونية المختلفة واعتمد على منصة يوتيوب للوصول إلى محتوى مماثل، ابحث عن حزم خدمات الإنترنت والهاتف الأرخص ثمنا وألغِ أي اشتراكات في خدمات أو تطبيقات غير ضرورية تستنزف دخلك، في النهاية، فنمط الحياة هذا مؤقت وينبغي أن تركز على وصول مدخراتك طويلة المدى إلى مبلغ معين أولا قبل مراجعته.
التخطيط المسبق لأي مصاريف طارئة
يدخل التخطيط المسبق لأي مصاريف طارئة من خلال تخصيص صندوق للطوارئ ضمن عملية الادخار على المدى القصير، إذ يسمح لك إنشاء صندوق للمصاريف الطارئة بالتعامل مع النفقات المفاجئة، مثل التكاليف الطبية أو مصاريف إصلاح السيارة أو الأجهزة الإلكترونية الضرورية لعملك دون التأثير على مصروفك الشهري العادي وادخاراتك طويلة المدى. ولأن هذه الحوادث تكون غالبًا غير قابلة للتنبؤ والتقدير المسبق، فإن التركيز هنا يكون على تخصيص جزء من الدخل الفائض عن الاحتياجات الأساسية لهذا الغرض دوريًا، بحيث ينمو الصندوق مع مرور الزمن.
من أجل التخطيط الدقيق لصندوق الطوارئ، قدّر المصاريف الثابتة الشهرية وتابع دخلك بدقة، وعند تجاوز الدخل الشهري لمستوى هذه المصاريف، احرص على تقسيمها على صندوق المصاريف الطارئة وحسابك الادخاري على المدى الطويل؛ أما فيما يخص كيفية تعديل نمط حياتك لتوجيهه لهذا النوع من المدخرات، فإن الإجابة هي نفسها الخاصة بالادخار طويل المدى، إذ يتحتم عليك تقديم تضحيات خلال فترة الادخار للوصول على الأقل إلى ما يعادل المصاريف الأساسية لثلاثة أشهر كمبلغ أدنى لصندوق المصاريف الطارئة.
من جهة أخرى، إذا كنت تعاني من مرض مزمن يتطلب مصاريفًا دورية، أو كنت تعتني بشخص أو بطفل ذي مصاريف يمكن التنبؤ بها، فيمكنك إدراج مدخرات هذه المصاريف في صندوق المصاريف الطارئة أيضًا، على أن يكون حجم المدخرات ملائمًا للاستجابة لهذه الاحتياجات، بالإضافة إلى أي مصاريف أخرى غير متوقعة، ويُمكن تخصيص حساب مستقل لهذه المصاريف إذا كان دمجها مع تلك الطارئة يؤدي إلى خلق صورة ضبابية حول وضعيتك المالية، ففي كل الأحوال، تهدف هذه الطرق إلى إعطائك صورةً واقعيةً وشعورًا بالأمان المالي، ويمكنك تعديلها بما يلائم وضعيتك الخاصة.
تطوير المعرفة بالإدارة المالية الشخصية للعمل الحر
لم تَعُد الإحاطة بمبادئ الإدارة المالية الشخصية حكرًا على المختصين، فأنت لا تحتاج إلى شهادة في العلوم المالية لتفهم متطلبات إدارة أموال عملك الحر بفعالية، خاصةً في عصر المعلومات الحالي الذي يمكنك فيه الوصول إلى محاضرات ولقاءات مع أخصائيين ورواد أعمال ذوي خبرات عالية بكل سهولة على منصات التواصل الاجتماعي مثل قنوات يوتيوب، وكذا على مدونات الانترنت المختصة.
يُمكنك تطوير معرفتك بالإدارة المالية الشخصية من بناء الخبرة والثقة الكافية ولإدارة وادخار واستثمار أموالك بكفاءة، والحصول على هذه المعرفة يمكن أن يتم من خلال القنوات التالية:
- الاشتراك في رسائل الأخبار على الايميل انطلاقًا من مختلف المواقع المختصة في الإدارة المالية الشخصية ومواقع الخبراء.
- الاستماع إلى المدونات الصوتية المختصة.
- قراءة الكتب المختصة في الإدارة المالية الشخصية.
- متابعة قنوات وصفحات الإدارة المالية الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي.
- التفاعل مع رواد العمل الحر الآخرين ذوي الخبرة في المجال وطرح أسئلة عليهم حول كيف يديرون ماليتهم الشخصية.
- الاختلاط بالخبراء في المجال سواءً خلال الندوات العلمية أو مختلف الأحداث المشابهة حولك، أو عن طريق التواصل معهم عبر الخط.
في الأخير، سواءً تعلق الأمر بمتابعة الدخل أو باتخاذ القرارات الانفاقية والادخارية، فإن المسألة تبقى متعلقةً ببناء معرفة وخبرة في أمور إدارة مالية العمل الحر، والفهم العميق لطبيعة دخل نشاطك وكيفية التعامل معه بمرونة، وهي قضية تحتاج إلى وقت معين للتبلور، لذا ركز على أن تبدأ تدريجيا في جمع هذه الخبرات وتعلم شيء جديد كل يوم، وتوقع الأفضل مع مرور الأيام.